جاء اللقاء الفرنسي السعودي حول لبنان على وقع تصعيد إسرائيلي في الجنوب تخطى مناطق الحدود إلى العمق وكشف عما يواجهه البلد في المرحلة المقبلة حتى لو تمكنت الولايات المتحدة الأميركية من التوصل إلى وقف اطلاق النار في غزة. والواقع وفق ما يرشح من معطيات عن لقاءات الرياض وما أشيع عن أجواء إيجابية في بيروت حول الملف الرئاسي أن الأمور ليست على طريق الحل، لا في الملف الرئاسي ولا في التسويات الداخلية، إذ أن كل الملفات مرتبطة بوضع جبهة الجنوب ومصيرها في ضوء إنسداد الأفق أمام الحل الديبلوماسي، وارتفاع سقف الشروط الإسرائيلية حول أي تسوية للحدود.
بات واضحاً أن الملفات اللبنانية معلقة بمصير الحرب على جبهة الجنوب، فإسرائيل التي تصعد عملياتها ضد القرى الأمامية، حوّلت الجنوب جبهة قائمة بذاتها، ووفق مصدر ديبلوماسي مطلع، لم تعد إسرائيل تربط البحث حول هذه الجبهة بالعلاقة مع غزة، بل هي تريد ترتيبات أمنية، ولا يعنيها وفق ما أعلنه رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في وقت سابق والعديد من وزرائها بأن التوصل إلى هدنة في غزة تشمل لبنان، وهو ما حذر منه في وقت سابق المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين.
الخطر الكامن في المرحلة المقبلة على جبهة الجنوب، هو ما تفكر به إسرائيل وترفع شروطها حوله، وينطلق من رفض العودة إلى ما قبل 8 تشرين الاول (أكتوبر) 2023، لا في قواعد الاشتباك ولا أيضاً في الستاتيكو الذي كان يحكم الحدود، وهي تريد كسر ما يعتبره “#حزب الله” توازن الردع الذي حققه بعد حرب تموز (يوليو) 2006، على الرغم من صدور القرار 1701. وينقل المصدر الديبلوماسي معلومات عن أجواء المفاوضات والاتصالات الدولية حول غزة، مشيراً إلى أن إسرائيل ترفض البحث بوقف التصعيد على جبهة الجنوب، ويكشف نقلاً عن وسطاء أن إسرائيل تريد إبقاء الجبهة مفتوحة حتى تحقيق أهداف تعتبرها استراتيجية تتجاوز القرار 1701، وهي أبلغت الموفدين الدوليين أنها لن تقبل بوقف النار في الجنوب إلا بعد التوصل الى ترتيبات تبعد “حزب الله” إلى ما وراء الليطاني وعلى خط يمتد بين 7 و10 كيلومترات، أي أنها تطرح مجدداً منطقة أمنية عازلة، تتولاها القوات الدولية مع الجيش اللبناني، أو أنها ستستمر بحربها وتحويل المنطقة إلى أرض محروقة ومدمرة لا يمكن إعادة إعمارها.
وإذا كان مستبعداً التوصل في الداخل اللبناني إلى تسويات لانتخاب رئيس للجمهورية، وهذا ما تظهره الخلافات المستمرة حول الحوار والتشاور، على الرغم مما أشيع من أجواء إيجابية، فإن الأنظار تتجه مجدداً إلى الجنوب كمؤشر على ما يمكن أن يعكسه على الداخل، في وقت يستمر “حزب الله” بعملياته ويسعى إلى تكريس توازن لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل طوفان الأقصى في حال وقف إطلاق النار. لكن الوقائع لا تشير الى أن جبهة الجنوب ستتجه نحو التهدئة، إذ أن إسرائيل تصعد الوضع في الميدان لفرض أمر واقع على الحدود. ويبدو أنها تستند إلى مجموعة عوامل، وفق المصدر الديبلوماسي، فهي لم تعد بوارد شن حرب كبيرة أو تنفيذ هجوم بري على لبنان، انما ستستمر في حربها الحالية وتوسعها، بعدما حوّلت القرى الحدودية إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولذلك هي انتقلت إلى مرحلة ثانية من التدمير من دون أن يكون لبنان قادراً على مواجهتها، وتستثمر في الوقت نفسه الانشغال الأميركي بالانتخابات مع غياب هوكشتاين عن وساطته، وفي ظل الرسائل الإسرائيلية المستمرة التي تهدد لبنان. وجاءت الغارات الإسرائيلية الكثيفة على مناطق شمال الليطاني أو على تماس معه، أي خط فرون والغندورية وصريفا وصولاً إلى قعقعية الجسر، وأيضاً على الخط الممتد نحو مجدل زون وقرى برعشيت وحداثا، لتشير الى مرحلة جديدة من الحرب ضد “حزب الله” عبر فرض حزام أمني ثانٍ بعد تدمير قرى الحدود وهذا يعني أن إسرائيل مستمرة في حربها وتحاول ابعاد المعركة عن مستوطناتها الشمالية واشغال لبنان بالنزوح والتدمير لتحقيق شروطها حول الحل.
الثابت الآن هو ما تنقله أيضاً أوساط ديبلوماسية عن الخطة الإسرائيلية المقبلة خصوصاً ضد الضفة الغربية ولبنان، بعد الانتهاء من غزة. فنتنياهو يسعى أولاً إلى فرض واقع على غزة بتكريس احتلال دائم لمناطق معينة لا يمكن بعدها للفلسطينيين أن يعيدوا تنظيم أنفسهم، وهو أجهض المفاوضات بشروطه من خلال تمديد الحرب أطول فترة ممكنة وإلى ما بعد الانتخابات الأميركية، وإبقاء الوضع على ما هو عليه مع مزيد من التدمير حتى التسليم الكامل بالاحتلال.
الفترة الفاصلة عن الاستحقاق الأميركي الرئاسي سيستغلها نتنياهو على مدى الشهرين المتبقيين في توسيع معركته ضد لبنان والضفة، على الرغم من ضغوط واشنطن التي منعت إسرائيل من شن حرب كبرى على لبنان، لذا يركز اليوم حربه على الضفة لخنق الفلسطينيين أكثر ودفعهم إلى التسليم بوقائع الاستيطان والهجرة وصولاً إلى تصفية القضية الفلسطينية.
وفي ما يتعلق بلبنان تشير الأوساط الديبلوماسية إلى أن إسرائيل تنتهج سياسة جديدة بديلاً عن الحرب الشاملة، من خلال تدمير القرى والاغتيالات وتكريس أحزمة أمنية متعددة عبر تركيز الغارات على مناطق شمال الليطاني ثم في العمق اللبناني واستهداف مواقع ومخازن لـ”حزب الله” بعيدة لمنعه من الحركة ونقل السلاح والذخائر، ما يعني أن الحرب مستمرة جنوباً وفي الضفة بأشكال مختلفة حتى الانتخابات الأميركية.
أمام هذه التطورات يجد لبنان نفسه في وضع مربك، في الوقت الذي يصر “حزب الله” على معركة المساندة ويرفض فصل جبهة لبنان عن غزة، علماً أنه وفق المصدر الديبلوماسي يأخذ بالاعتبار محاولة إسرائيل تكريس أحزمة تبعده عن الحدود أو تشل قدرته على ضرب أهداف في إسرائيل. وإذا كان الحزب حتى الآن لا يريد فتح حرب شاملة، طالما أن مرجعيته الإقليمية تفاوض الأميركيين على ملفات عدة، فإنه يستمر بأخذ البلد مستنزفاً إلى معركته ويعلّق معها كل الملفات الداخلية. ولذا يبدو الحل اللبناني بعيداً ومعلقاً حتى ما بعد الانتخابات الأميركية.