الغبار الذي أحدثته استقالة مساعد الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف من منصبه لم ينجل بعد، وقد أثارت خطوته سيلاً من التكهّنات، وسط جدل واسع حول دوافعها في هذا التوقيت، مع تسارع الأحداث السياسية والأمنية في المنطقة والعالم.
فبالرغم من تأكيد المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية فاطمة مهاجراني، أن الرئيس مسعود بزشکیان لم يبتّ بعد في مصير الاستقالة، تكثر التساؤلات حول حقيقة الأسباب التي دفعت هذا الرجل “الإصلاحي” و”مهندس الاتفاق النووي” إلى الاستقالة التي عزاها ظريف الى نصيحة من رئيس السلطة القضائية بالعودة إلى الجامعة للتدريس لمنع المزيد من الضغوط على الحكومة، بعدما أقرّ أنّه واجه “أفظع الإهانات والافتراءات والتهديدات” بحقّه وبحقّ أفراد عائلته، وعاش “أسوأ فترة” ضمن سنوات خدمته الأربعين؟
الخبير بالشؤون الإقليمية والدولية الدكتور حكم أمهز رجّح وجود دوافع عدة وراء خطوة ظريف بعدما نفى بداية وجود ضغوط تمارس عادة في ايران لدفع أي مسؤول إلى الاستقالة. ولفت الى أن استقالة ظريف سبقتها إقالة البرلمان الإيراني لوزير المال عبد الناصر همّتي بسبب طريقة معالجته أزمة معدّل التضخم الحادّ والتراجع الكبير في قيمة الريال الإيراني، وقال: بالرغم من الحصار المفروض عليها منذ سنوات، إلاَّ أنّ ذلك لم يؤثّر على ايران كثيراً لوجود إمكانات كبيرة لديها تمكّنها من الاكتفاء الذاتي، إلّا أنّ تدهور العملة وبشكل سريع وفي غضون أيام عدّة، في ظل غياب أي اجرءات وقائية لوزير المال، تمّت اقالته للحدّ من التدهور ومنع ارتداداته السلبية في ظل العقوبات، واعتقد أن ما جرى شكّل أحد الاسباب التي دفعت ظريف إلى الاستقالة.
أضاف أمهز: “من يتابع الشأن الإيراني سيعتبر أنّ ايران قد شهدت هذه التطورات مع مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكن في الحقيقة، العقوبات الأميركية الجديدة ليست مؤثرة، وتدهور العملة سيشكّل ضغطاً على المواطن الايراني والحكومة لإيجاد حلول. أما في شأن كيفية هذه الحلول، فالبعض في ايران يرى وجوب الانفتاح على الغرب، ومن بينهم ظريف، فيما يرى البعض الآخر وجوب الاتجاه شرقاً، كالصين وروسيا، والمحافظة في الوقت نفسه على توازن مع الغرب، بعدما أبرمت ايران الاتفاق النووي سنة 2015 والتزمت به، فيما نقضه الأميركيون والأوروبيون وتراجعوا عن التزاماتهم، وبالتالي على أي أساس سيكون الاتجاه إلى الغرب ما دام الاميركيون والاوروبيون يشترطون للتفاوض، أن تتخلّى ايران عن تصنيع صواريخ باليستية وطائرات من دون طيار وتخفيض نسبة التخصيب؟ أي عملياً تجريدها من قدراتها العسكرية، علماً أنّها التزمت بالاتفاق كلّياً، حتى بعد انسحاب واشنطن منه عام 2018، ظلت ملتزمة به لسنة وثمانية أشهر، بدليل أن 16 تقريراً صادراً عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكّدوا التزامها.
وإذ ذكّر أمهز ببندين في الاتفاق النووي ( 26 و36) يسمحان لأي طرف وجد نفسه متضرّراً باتّخاذ الاجرءات المناسبة في حال عدم التزام أي دولة موقّعة به، شرح أنّ ايران لم تنسحب من الاتفاق، بل قلّصت من نسبة التزامها، به، بمعنى أنها زادت نسبة التخصيب من 3,67 في المئة الى 60 بالمئة، ومن استخدام أجهزة الطرد المركزي المتطورة من IR1 إلى IR 6، لكنّها لم تصنّع السلاح النووي بالرغم من قدرتها على تخصيب نسبة 90 بالمئة، وذلك للضغط على الغرب لكي يفي بالتزاماته والتفاوض معها من الندّ الى الندّ”.
وفي اعتقاد أمهز “أن استقالة ظريف جاءت بالتزامن مع التطورات في ايران والمنطقة، والعقوبات الأخيرة للضغط عليها بشأن التفاوض بشروط أميركية، والردّ الايراني الجريء والمشرّف على التهديدات”. وقال: “نجهل ما في الكواليس، لكن نعرف أنّ ظريف هو من الذين ينحون نحو التفاوض مع الاميركيين، لكن بأي شروط وظروف؟ نجهل ذلك”.
في المقابل، لفت أمهز إلى “أنّ الرئيس بزشكيان المحسوب أيضاً على التيار الاصلاحي، كان أعلن أكثر من مرة أنه تحت مظلّة المرشد الإيراني السيد علي خامنئي، ويمكن أنّ ظريف وجد نفسه أنّه غير قادر على تنفيذ مشروعه، أضف إلى نصيحة رئيس السلطة القضائية له بالعودة إلى الجامعة للتدريس من أجل المساعدة في تخفيف الضغوط على إدارة الرئيس ارتأى أن يستقيل لكي لا يشكّل ضغطاً عليه فيتّخذ القرار الذي يجده مناسباً، علماً أن ظريف قدّم استقالته سابقاً مع بداية تشكيل الحكومة في ايران، مبرّراً أنّ التشكيلة شملت بعض المحسوبين على التيار المحافظ ولم تكن كما يريد، واللافت أنها ضمّت وزير المال المُقال حديثاً وهو من الإصلاحيين، وفشل في ادارة الأزمة المالية بالرغم من إدارته للبنك المركزي في حينه، وقد تعرّض لانتقادات شعبية شديدة “.
ونفى أمهز وجود أي تداعيات لاستقالة ظريف على ايران، وتحدّث عن وجود انزعاج أيضاً لدى التيار الاصلاحي الذي ينتمي له بزشكيان من الازمة الاقتصادية.
أخيراً، سجّل أمهز مفارقة لافتة، فبعدما انطلق “من الإدّعاءات الأميركية المستمرّة بتأييد الاصلاحيين في ايران”، ذكّر بوصولهم في عهد الرئيس حسن روحاني وفي عهد الرئيس الحالي، متسائلاً “عن أسباب محاربتهم وإحراجهم أمام الشعب الايراني وعدم تنفيذ التعهّدات التي نصّ عليها الاتفاق النووي، بدل دعمهم والوقوف إلى جانبهم”. واعتبر أن ترامب “كشف عن وجهه الحقيقي”؛ فالمشاهدة بينه وبين الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي عبرّت عن الموقف الحقيقي للولايات المتحدة حيال الأصدقاء والأعداء”، مؤكداً أنّ “كل من يراهن على الاميركي لا ينجح”، واستحضر مقولة أميركية مفادها “أن تتخاصم مع الاميركي فهذه خطيئة، أما اذا تحالفت معه فهذه خطيئة مميتة”.