تواجه التجارة العالمية تحدياً جديداً يهدد شرايين الاقتصاد العالمي، وهو النقص الحاد في القوى العاملة البحرية، ففي الوقت الذي يشهد فيه العالم تزايداً في الطلب على السلع والخدمات، وتعتمد فيه سلاسل التوريد بشكل كبير على النقل البحري، يلوح في الأفق خطر شلل عالمي بسبب نقص البحارة المؤهلين.
وتتعدد الأسباب التي أدت إلى هذا النقص، منها تفضيلات الأجيال الشابة، بالإضافة إلى الصراعات الجيوسياسية التي أثرت على إمدادات البحارة من بعض الدول. ونتيجة لذلك، تعاني سفن الشحن من نقص في الأيدي العاملة، مما يؤدي إلى تأخيرات في عمليات الشحن وارتفاع في التكاليف.
لكن، هل يقتصر تأثير هذا النقص على قطاع الشحن وحده؟ أم أنه يمتد إلى المستهلك العادي ويؤثر على أسعار السلع التي نستهلكها يومياً؟ وهل يمكن أن يؤدي هذا النقص إلى اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية؟
يؤدي نقص البحارة الذي تعاني منه صناعة الشحن العالمية إلى عواقب وخيمة تشمل انتشار السير الذاتية المزيفة، وزيادة حوادث البحر، وارتفاع أسعار الشحن، بحسب تقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي” واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وقال ريت هاريس، كبير محللي التوظيف في شركة دروي “لقد شهدنا نقصاً مستمراً في البحارة، وعلى الرغم من زيادة عدد السفن بشكل كبير في السنوات الأخيرة، إلا أن نمو القوى العاملة اللازمة لتشغيل هذه السفن لم يواكب ذلك، وتضطر الشركات إلى توظيف بحارة أقل خبرة مما يرغبون فيه بشكل مثالي”.
بدوره، قال دايجين لي، رئيس قسم الأبحاث العالمي في فيرتي ستريم: “لقد زودت كل من أوكرانيا وروسيا الكثير من البحارة المحترفين. ومع ذلك، فقد أدى الصراع بين أوكرانيا وروسيا بالفعل إلى تقليل إمدادات البحارة من كلا البلدين، حيث يواجهان نقصاً عاماً في العمالة بسبب الحرب”.
وتعد الفلبين والصين وروسيا وأوكرانيا وإندونيسيا أكبر موردي البحارة في العالم، وقبل الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، شكل البحارة الروس والأوكرانيون نحو 15 بالمئة من القوى العاملة في الشحن العالمي، وفقاً لتقرير عن توزيع القوى العاملة البحرية الصادر عن غرفة التجارة الدولية (ICS) وBIMCO.، وتتوقع الغرفة عجزاً قدره 90 ألف بحار مدرب بحلول عام 2026، مشيرة إلى أن صناع السياسات يحتاجون إلى وضع استراتيجيات وطنية لمعالجة نقص البحارة.
وقالت ” ICS”: “من الأهمية بمكان أن نقوم بتجنيد قوة عاملة أكثر تنوعاً بنشاط إذا أردنا تلبية النقص في البحارة اللازمين للحفاظ على ازدهار الصناعة، فهو أحد أكبر التحديات التي تواجه صناعتنا في الوقت الحالي، إن الأحداث الجيوسياسية خلقت أيضاً المزيد من المخاطر في البحر حيث تواصل جماعة الحوثي المسلحة استهداف السفن في البحر الأحمر، مما يقلل من جاذبية مهنة البحارة”.
تراجع جاذبية مهنة البحارة
وقال هنريك جينسن، الرئيس التنفيذي لشركة “دانيكا كروينغ سبيشاليستس”، وهي شركة دولية للتوظيف البحري وخدمات التوظيف: “إن العاملين البحريين الحاليين يختارون أيضاً المزيد من الوظائف القائمة على الشاطئ بدلاً من الخروج إلى البحر. وعلاوة على ذلك، فإن تراجع جاذبية مهنة البحارة بين الأجيال الشابة قد يكون المسمار الأخير في نعش هذه المهنة.
وفي السياق، قال لي من شركة فيرتي ستريم: “في الماضي، كانت رواتب البحارة مرتفعة بما يكفي لجعلها خياراً جذاباً مالياً، ولكن في الوقت الحاضر، يعطي الشباب الأولوية للتوازن بين العمل والحياة ولا يرغبون في الالتزام بمهنة تتطلب فترات طويلة بعيداً عن المنزل”.
بينما قال هاريس من شركة درويري: “إن الحياة في البحر دون اتصال دائم قد لا تكون مثالية لأولئك الذين نشأوا مع الإنترنت والهواتف في متناول أيديهم”.
وأوضح تقرير الشبكة الأميركية أنه نتيجة لذلك، تحاول المزيد من الشركات جذب الجيل الأصغر سناً من خلال توفير مرافق الترفيه والصالة الرياضية على متن السفينة، فضلاً عن الرحلات الأقصر التي تتراوح من شهرين إلى أربعة أشهر، مشيراً إلى أن “نقص المعروض من البحارة أدى إلى قيام الشركات بعرض رواتب أعلى لجذب المواهب من مجموعة محدودة، ولكن أيضاً المتقدمين الذين يجربون حظهم في الوظائف الشاغرة التي لا يؤهلون لها من خلال تقديم السير الذاتية المزيفة والانضمام إليهم”.
وأظهرت دراسة أجرتها جامعة العالم البحري في عام 2024 أن أكثر من 93 بالمئة من 9214 بحاراً شملهم الاستطلاع أشاروا إلى أن التعب هو التحدي الأكثر شيوعاً المرتبط بالسلامة على متن السفن. ويبلغ نحو 78 بالمئة ممن شملهم الاستطلاع أنهم لا يحصلون على يوم إجازة كامل طوال فترة العقد، والتي يمكن أن تستمر لعدة أشهر.
من جانبه، قال سوبهانشو دوت، المدير التنفيذي لشركة “أوم ماريتايم”، إن سلامة السفن والطاقم يمكن أن تتعرض للخطر بسبب مزيج من قلة الخبرة ونقص الصيانة المناسبة والتعب، وإن نقص الأطقم قد يعطل أيضاً سلاسل التوريد، حيث قد تتأخر السفن في الموانئ”.
وبالإضافة إلى ذلك، أشار لي من شركة فيرتي ستريم إلى أن “أجور البحارة تشكل جزءاً كبيراً من تكاليف تشغيل السفينة، والتي من المتوقع أن تظل مرتفعة مع قيام الشركات بزيادة الرواتب في محاولة لجذب المواهب والاحتفاظ بها، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار الشحن، مما يضيف بعض الضغوط التضخمية مستقبلاً”.
العنصر البشري أبرز التحديات أمام سلاسل التوريد
الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى بدرة أكد في حديث خاص لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن أحد أبرز التحديات التي تواجه سلاسل التوريد العالمية يكمن في العنصر البشري، مشراً إلى أن الشحن البحري يعد جزءاً لا يتجزأ من سلسلة التوريد العالمية، وأن ما بين 70 و80 بالمئة من التبادل التجاري العالمي يتم عن طريق البحر، مما يستلزم وجود كوادر بشرية بمهارات خاصة لإدارة هذا القطاع الحيوي.
وأشار الدكتور بدرة إلى أن تحقيق كفاءة أكبر في النقل البحري يتطلب تعزيز برامج تدريب الكوادر البشرية بما في ذلك البحارة، لا سيما مع وجود تحديات تعرقل عمليات الشحن، مثل عبور السفن عبر البحر الأحمر ومسارات بحرية أخرى حول العالم لنقل البضائع بين الدول.
كما دعا إلى زيادة حجم الأسطول البحري العالمي، الذي يُعد غير كافٍ حالياً لتلبية الاحتياجات المتزايدة، بهدف تعزيز حركة التجارة الدولية وزيادة المعروض من السلع ومدخلات الإنتاج. وأوضح أن هذا الإجراء سيساهم في تخفيف معدلات التضخم العالمية التي تفاقمت خلال العامين الماضيين. ومع ذلك، شدد على أن هذه الجهود تتطلب استثمارات ضخمة تُقدّر بمليارات الدولارات من قبل الشركات العالمية الكبرى.
ظروف عمل قاسية
وأضاف عقل: “إن البحارة يعانون من ظروف عمل قاسية تشمل الانقطاع عن الأهل لفترات طويلة، وغياب الحياة الاجتماعية، والإرهاق والتوتر الناتجين عن قضاء أشهر في البحر. هذه الظروف تؤثر على صحتهم النفسية والبدنية مما تزيد من مخاطر الحوادث البحرية”.
ومع ذلك، أكد الخبير الاقتصادي عقل أن القطاع لا يعاني من نقص كبير في العمالة البحرية، حيث تشير الإحصائيات إلى وجود 1.89 مليون بحار يعملون على 74 ألف سفينة، تغطي حوالي 90 بالمئة من التجارة العالمية.
وتابع قائلاً: “إن نقص سائقي الشاحنات المكلفين بنقل البضائع من السفن إلى المستهلكين زاد من تعقيد الأزمة”. كما لفت إلى عوامل أخرى ساهمت في ارتفاع أجور الشحن البحري، منها:
عدم الاستثمار الكافي في بناء السفن وتصنيع الحاويات.
ارتفاع التكاليف في مواسم الذروة والرسوم الطارئة.
التكاليف الباهظة للتحول إلى استخدام وقود منخفض الانبعاثات الكربونية، حيث تُضاف هذه التكاليف إلى أسعار النقل البحري.
وأكد عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية أن هذه العوامل مجتمعة جعلت أزمة الشحن البحري متعددة الأبعاد، مما يستدعي استثمارات طويلة الأجل وتعاوناً دولياً بين الشركات والحكومات للتعامل معها بفعالية.