أكّد البابا لاوُن الرابع عشر، خلال استقباله أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي، التزام الكنيسة الكاثوليكية بمرافقة الأسرة الدولية بروح من الحوار، والانفتاح، وخدمة الخير العام.
وشدّد على أنّ الدبلوماسية البابوية ليست مجرّد أداة سياسية، بل امتداد حيّ لرسالة الكنيسة الجامعة، التي تسعى إلى الدفاع عن كرامة الإنسان، وتعزيز العدالة والسلام، وتذكير العالم بالحقيقة التي تُحرّر.
ودعا البابا إلى “وضع الإنسان في قلب كل علاقة دولية”، مؤكّداً أنّ السلام لا يُبنى إلا انطلاقاً من القلب، وأنّ العدالة تتطلّب شجاعة الدفاع عن الأضعف، وأنّ الحقيقة تظلّ حجر الزاوية في كل حوار صادق. ووجّه نداءً قويًّا إلى إحياء روح التعددية، ووقف سباقات التسلّح، وتعزيز قيم التلاقي بدلًا من منطق الصراع والانقسام.
وجدّد البابا التعبير عن رغبة الكنيسة ورغبته الشخصيّة في بلوغ كل شعب ومعانقة كل إنسان على وجه هذه الأرض، متعطّش ومعوز إلى الحقيقة، والعدالة، والسلام.
وقال: أرغب أن نضع نُصب أعيننا ثلاث كلمات أساسيّة، تشكّل أعمدة العمل الرسولي للكنيسة، وأُسس العمل الدبلوماسي للكرسي الرسولي. وأولى هذه الكلمات: السلام. فلقد باتت هذه الكلمة، في كثير من الأحيان، تُفهم على نحوٍ سلبي، أي كغياب للحرب أو النزاع فحسب، لأنّ التضادّ قد غدا من سمات الطبيعة البشرية، ويلازمنا في كل حين، ويدفعنا إلى أن نعيش في حالة صراع دائم، في البيت، وفي العمل، وفي المجتمع. وهكذا يبدو السلام وكأنه مجرد هدنة، أو فسحة راحة موقّتة بين معركتين، لأنه مهما حاولنا جاهدين، فإن التوترات حاضرة على الدوام، مثل الجمر المتّقد تحت الرماد، الجاهز للاشتعال مجدّدًا في أي لحظة.
أضاف: في الرؤية المسيحية – كما في العديد من الخبرات الدينية الأخرى – يُعدّ السلام أولاً عطية. إنَّ السلام يُبنى في القلب، ومن القلب يبدأ، إذ لا سبيل إليه من دون اجتثاث الكبرياء والادعاءات، ومن دون تخفيف اللهجة وتلطيفها، إذ يمكن للمرء أن يؤذي ويقتل بالكلمات أيضًا، وليس فقط بالسلاح.
وفي هذا المنظور، أرى أنّ للأديان وللحوارات بين الأديان دوراً جوهرياً في تعزيز سياقات سلام. لكنّ ذلك يقتضي، بطبيعة الحال، احتراماً كاملاً للحرية الدينية في كل بلد… يمكننا أن نقتلع من الجذور كلّ ما يُمهّد للصراع، أو يُغذّي شهوة السيطرة والتدمير. ولبلوغ ذلك، لا بد من إرادة صادقة للحوار، تنبع من رغبة أصيلة في اللقاء، لا من التوق للمواجهة.
وتابع البابا: وفي هذا الإطار، تَبرز الحاجة إلى أن نُنعش من جديد الروح التي ألهمت الدبلوماسية المتعددة الأطراف، والمؤسسات الدولية التي وُجدت أصلاً لتكون حَكماً في النزاعات، وسبيلاً لحلّ الخلافات داخل الجماعة الدولية. ذلك يتطلّب، أيضاً، الشجاعة للتوقّف عن إنتاج أدوات الموت والخراب، إذ وكما ذكّر البابا فرنسيس في رسالته الأخيرة لبركة مدينة روما والعالم “لا يمكن تحقيق السلام من دون نزع سلاح حقيقي، ولا يمكن أن تتحول حاجة كل شعب إلى توفير الدفاع عن نفسه إلى سباق تسلح عام”.
وأكد البابا أن السعي إلى السلام يتطلب ممارسة العدالة. لافتاً الى أنه لا يمكن للكرسي الرسولي أن يتخلّى عن مسؤوليته في رفع صوته أمام مظاهر الظلم والخلل التي تؤدي، من بين أمور أخرى، إلى ظروف عمل غير إنسانية، ومجتمعات ممزّقة تزداد انقساماً وصداماً. ومن الواجب أيضاً أن نكافح من أجل تقليص التفاوتات العالمية التي تشقّ أخاديد عميقة بين القارات والبلدان وحتى داخل المجتمعات الفردية.
أضاف: وعلى من أُوكلت إليهم مسؤولية الحكم أن يبذلوا كل جهد لبناء مجتمعات مدنية يسودها الوئام والسلام. وإن السبيل إلى ذلك يبدأ بالاستثمار في العائلة، القائمة على الاتحاد الثابت بين رجل وامرأة، فهي “المجتمع الصغير الحقيقي، الذي يسبق كل مجتمع مدني”. كذلك لا يمكن لأحد أن يتقاعس عن حماية كرامة كلّ إنسان، لا سيّما الأضعف صوتاً والأشدَّ هشاشة: من الطفل الذي لم يولد بعد، إلى الشيخ الطاعن في السن، ومن المريض المهمَل إلى العاطل عن العمل، سواء أكان مواطناً أم مهاجراً.
وأشار البابا الى أنه لا يمكن بناء علاقات يسودها السلام الحقيقي، حتى ضمن الجماعة الدولية، ما لم تؤسَّس على الحقيقة… الحقيقة لا تفرّقنا، بل تفتح أمامنا آفاقًا أوسع لمواجهة تحديات عصرنا، مثل قضايا الهجرة، والاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، وحماية كوكبنا الحبيب. إنها تحديات تتطلّب منّا التزاماً مشتركاً، وتعاوناً صادقاً، لأنه لا يمكن لأيّ طرف أن يواجهها بمفرده.
وختم البابا كلمته بالقول: إنّه زمن توبة وتجدد، ووقت مناسب لنترك فيه خلفنا الصراعات، ونبدأ معاً مسيرة جديدة، يحركنا فيها الرجاء والرغبة في أن نبني، كلٌّ بحسب حساسيته ومسؤوليته، عالماً يستطيع فيه كل إنسان أن يُحقق إنسانيته في الحقّيقة، والعدالة، والسلام.