إذا كــان تحــرك الشــعــب دائــمــا مصــدر قوة لمواجهة الأزمات، فإن حسن ترشيد هذا التحرك ورسم أهدافه وضبط إيقاعه، وفقًا لسّلم أهداف واضحة، وتحليه بالوعي، هي مصادر الضمان الدائم لنيل أفضل النتائج، بل ربما لمنع الإنجراف أو الإنحراف نحو مسارات تصيب عكس المقاصد النبيلة التي يريدها أصحاب التحرك، ولنا في ما عرفناه مع مشهدية “الربيع العربي” الذي مر في بلدان كثيرة في المنطقة، ما يعطي المثال حول وجود متربصين كثر مستعدين ومجهزين ويملكون الخبرة، جاهزين للإنقضاض على الشارع ومحاولة سرقة تحركاته ونبضه وتوظيفهما في عكس مصالحه، أو تحويله نحو الفوضى، وجعله مجرد صندوق بريد لحمل الرسائل السياسية والأمنية، وبالتالي إجهاض الأمل بأن يكون التحرك الشعبي وصفة مساعدة في مواجهة الأزمة وتداعياتها.
قد يستنتج البعض من هذا التحذير الشائع دعوات للإمتناع عن دعم اي تحرك في الشارع أوالدعوة الى رفض هذا التحرك والتنديد به وبأهدافه ومراميه، وفي هذا ظلم كبير بحق الشارع، وخطأ كبير بحق ما يمكن الشارع أن يؤديه من دور مساعد في مواجهة الأزمة وتداعياتها.
ثمة ثلاثة مستويات يساهم عبرها الشارع في مواجهة الأزمة لا غنى عنها:- الأول: هو هذا القلق من سوء توظيف الشارع الغاضب، وما يرتبه من قوة ضغط معنوي وسياسي على المسؤولين المعنيين بمعالجة الأزمة، لعدم استسهال التباطؤ والتكاسل في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة الأزمة والحد من آثارها وتداعياتها، بحيث يصير لهذا القلق تأثير مختلف. فعندما يفشل السياسيون في تفادي حراك شعبي ويخشون تحّوله الى نوع من الفوضى، سيبادرون الى تهدئة الشارع واسترضائه، وهذا يستدعي تبّنيهم مجموعة خطوات وإجراءات تقنع الناس
بجديتها وجدواها.
يوم أسود عاشه لبنان على وهج 132 حريقًا خسائر لاُتقّدر في الثروة الوطنية وقتيل و178 مصابًا هل الأحوال الجوية وراء الحرائق أم أيٍد بشرية؟ الدفاع المدني يخمد الحرائق باللحم الحي وبمعدات “شبه خردة”… فمتى يأخذ حقه؟ النيران تكشف فضيحة…
– الثــاني: أن الشارع الصارخ بقوة يشكل بطبيعته عامل تركيز سياسي وإعلامــي علــى الهــدر والفســاد، ســواء فــي ســياق تحميل المسؤولين عبئًا معنويًا في صناعة الأزمة ناتجًا من تهاونهم مع مزاريب الهدر، أو في اتهام بعضهم بالتورط في التسبب بالأزمة من خلال انخراطهم في مشاريع فاسدة، وهــذا الضغط سيفرض حكمًا نوعًا من الردع الشعبي لمصلحة إجراءات إصلاحية، تــحــاكي مطــالبــات الشــارع بمــحاكمة الفاسدين واستعادة المال المنهوب.
– الثالث: بلورة أهداف قطاعية يمكن جعلها شعارات لتحركات منفصلة يقوم بها كل قطاع، ويمكن الضغط لفرضها والإستجابة لها أن يساهم مباشرة في تحقيق بعضها وترك انفراجات في الأزمة، كمثل مطالبة المتخرجين الجامعيين بقروض ميسرة ومدعومة للبدء بمشاريع متوسطة وصغيرة، تشبه قروض السكن، وهذه القروض لآلاف المشاريع
الصغيرة والمتوسطة للمتخرجين الجامعيين تتكفل بالحد من هجرة الشباب من جهة، وبإضافة قطاع إقتصادي منتج وواعد الى القطاعات الاقتصادية الأخرى المتعبة، ومثل مطالبة الصناعيين والمزارعين برسوم نوعية على البضائع والسلع المنافسة للسلع المنتجة محليا، وهذا يزيد فرص الحياة لهذه القطاعات ويتيح لها التــوســع ويــرفــع التصدير ويخفض
الإستيراد، ويخلق الكثير من فرص العمل الجديدة والأسواق الجديدة، ويؤمن المزيد من الواردات للخزينة. التحركات الشعبية مصدر قوة لكل مؤمن بالإصلاح الحقيقي، ووسيلة ضغط تستند إليها كل الحركات الإصلاحية، لكن المهم هو حسن إدارة وتوظيف هذه القوة التي تغير الشعوب بها، وهذا يستدعي تلاقي النخب الواعية مع التحركات الشعبية وعدم تركها وحيدة تتقاذفها محاولات التلاعب والتوظيف السياسي أو الطائفي، أو جعلها منصة لتبادل الإتهامات السياسية والطائفية، لأنها هكذا تتحول من نعمة إلى نقمة.
* نائب من الشوف في مجلس النواب اللبناني