فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسوماً جمركية على مختلف دول العالم، ما تسبب في إقصاء الصين عن أكبر أسواقها، الولايات المتحدة. وهو ما دفع بكين إلى تحويل تركيزها إلى أسواق أخرى لتصريف فائضها الهائل من الإنتاج، بطريقة تهدد بإعادة تشكيل اقتصادات العالم وتوازناته الجيوسياسية، حسبما أوردت صحيفة “نيويورك تايمز”.
وحسب الصحيفة، فإن هذا السيناريو يعيد إلى الأذهان ما حصل قبل عقدين من الزمن، عندما فاجأت الصين الولايات المتحدة بقدرتها على تصنيع السلع وشحنها بسرعة وتكلفة منخفضة، وهو ما أعاد تشكيل الاقتصاد الأميركي والمشهد السياسي.
وخلال العام الجاري، بلغ فائض الصين التجاري مع بقية دول العالم نحو 500 مليار دولار، بزيادة تتجاوز 40% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. ومع احتدام المواجهة التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، تستعد بقية الدول لموجة صينية أكبر من التصدير.
ويُعد هذا التدفق الهائل للصادرات الصينية نتيجة مباشرة للسياسات الحكومية والتباطؤ الاقتصادي الداخلي. فمن أجل تخفيف وقع أزمة العقارات التي قلصت ثروات ملايين الأسر، ضخت بكين على مدى سنوات أموالاً ضخمة في قطاعات التصنيع، التي باتت تنتج سلعاً تفوق بكثير حجم الطلب المحلي.
غزارة في الإنتاج
وقالت ليا فاهي، الخبيرة الاقتصادية المتخصصة في الشأن الصيني لدى مؤسسة “كابيتال إيكونوميكس”، لـ”نيويورك تايمز”، إن الصين “لديها كميات هائلة من السلع التي تحتاج إلى تصديرها، وسواء فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية أم لا، فإنه من شبه المستحيل وقف هذه التحولات في تدفقات التجارة”.
وأظهر تحليل أجرته فاهي، أن الحصة السوقية العالمية للصين في جميع فئات السلع، ارتفعت بشكل حاد. ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه رغم الرسوم الجمركية، نظراً لأن بكين لا تبدو مستعدة لتغيير مسارها القائم على دعم الصادرات.
ومن خلال إعادة توجيه تدفقات صادراتها نحو جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا، خففت الصين بالفعل من الأثر الاقتصادي لتراجع الطلب الأميركي. لكن ذلك يضع الصين في مواجهة محتملة مع شركاء تجاريين يتعرضون هم أيضاً لضغوط من واشنطن.
ويهدد ترامب بفرض رسوم جمركية باهظة على الدول نفسها التي تشهد تدفقاً متزايداً للبضائع الصينية، مثل فيتنام وكمبوديا وإندونيسيا. وقد جرى تعليق هذه الرسوم مؤقتاً لإفساح المجال أمام المفاوضات.
واستفادت بعض الدول من زيادة استثمارات الشركات الأجنبية التي تسعى لنقل أنشطتها الإنتاجية من الصين بأسرع وقت ممكن. وتمكنت دول أخرى من إعادة تصدير بعض السلع الصينية إلى الولايات المتحدة.
لكن في حال عدم التوصل إلى خفض كبير في الرسوم الجمركية، فإن الشركات المحلية في دول جنوب شرق آسيا وغيرها، التي تواجه رسوماً أميركية مشددة، قد تتعرض لضربات قاسية تحت وطأة المنافسة من الشركات الصينية.
قال الرئيس الأميركي إن نظيره الصيني عنيد و”من الصعب للغاية إبرام صفقة معه”، وذلك بعد أيام من اتهامه للصين بانتهاك اتفاق لإلغاء الرسوم والقيود التجارية.
ورغم أن ترامب قلب موازين التجارة من خلال فرض رسوم جمركية غير مسبوقة، فإن التحول الجذري في صادرات الصين كان واقعاً قبل وصوله إلى البيت الأبيض بوقت طويل.
أزمة العقارات الصينية
وبدأت أزمة العقارات في الصين، المتمثلة في تخمة المعروض من الوحدات السكنية وانهيار الأسعار وانتشار حالات الإفلاس، تنعكس على اقتصاد البلاد منذ عام 2021.
ولم يضيع صانعو السياسات في الصين وقتاً، في تحويل القروض منخفضة التكلفة من شركات التطوير العقاري إلى قطاعات التصدير والتصنيع، في خطوة عوضت في نهاية المطاف عن انهيار قطاع البناء، الذي كان يشكل في ذروته نحو ثلث النمو الاقتصادي.
وقال تومي وو، الخبير الاقتصادي لدى “كومرتس بنك”، إن الصين غالباً ما تُفرط في الاستثمار للوصول إلى حجم إنتاج كبير في البداية، ثم تتدخل السياسات الحكومية لدعم العملية. وأضاف: “هذا أحد الأسباب التي أوصلتنا إلى المشكلة الحالية”.
وكانت الصين قد شرعت منذ عام 2015 في تنفيذ سياسة صناعية داخلية تُعرف باسم “صُنع في الصين 2025″، بهدف تصنيع سلع أكثر تطوراً وقيمة، مثل الرقائق الإلكترونية المتقدمة والسيارات الكهربائية. وقد دفعت هذه المبادرة الولايات المتحدة وأوروبا إلى فرض رسوم جمركية أعلى على السيارات الكهربائية والألواح الشمسية وغيرها من المنتجات التقنية المتقدمة.
لكن اندفاع الصين لتعزيز قطاع التصنيع بعد انهيار سوق العقارات تجاوز تلك المبادرات بكثير. فبينما كانت المصانع الصينية تنتج منتجات أكثر تطوراً، ضاعفت في الوقت نفسه إنتاجها من السلع الرخيصة والبسيطة التي برعت الصين في تصنيعها قبل عقدين.
وقالت “نيويورك تايمز”، إن إعادة تشكيل قواعد التجارة من قبل الصين، أربكت حسابات الاقتصاديين.
نموذج جديد
وقالت بريانكا كيشور، الخبيرة الاقتصادية في سنغافورة: “الصين لا تتطور بالطريقة التي تفترضها النظريات الاقتصادية، وها نحن نواجه نموذجاً جديداً”، في إشارة إلى المسار التقليدي الذي تسلكه الاقتصادات عادةً حين تنتقل من الصناعات منخفضة القيمة إلى قطاعات أكثر تقدماً مع نضوجها وتطورها.
وأضافت كيشور: “يمثل هذا تحدياً، لأنه يزيد الضغوط على بقية دول العالم”.
ومع بدء الرسوم الجمركية في إعادة تشكيل تدفقات التجارة وسلاسل التوريد، بدأت الآثار الاقتصادية بالظهور تدريجياً. ففي ألمانيا، ارتفعت واردات البضائع الصينية في الشهر الماضي بنسبة 20% على أساس سنوي، وأعربت شركات، لا سيما شركات السيارات، عن قلقها من هذا التطور، بحسب وو من “كومرتس بنك”.
ورفعت الصين إنتاجها من السيارات الكهربائية هذا العام بنسبة 45%، رغم حرب الأسعار المحتدمة في السوق المحلية نتيجة ضعف الطلب الاستهلاكي. ووفق جمعية مصنعي السيارات في الصين، قفزت صادرات السيارات الكهربائية بنسبة 64.6% منذ بداية العام.
أما الدول التي تلقت الضربة الأكبر من ارتفاع واردات السلع الصينية، فقد شهدت بدورها تراجعاً حاداً في التصنيع، ما تسبب في فقدان وظائف وإفلاس شركات.
وفي إندونيسيا، أغلقت مصانع الألبسة أبوابها، بسبب عجزها عن منافسة الملابس الصينية الأرخص. وقال ريدما جيتا ويراواستا، رئيس رابطة منتجي خيوط الألياف في إندونيسيا، إن قطاع الملابس فقد نحو 250 ألف وظيفة في عامي 2023 و2024.
وفي تايلاند، أغلقت شركات تصنيع قطع غيار السيارات أبوابها بسبب السيارات الكهربائية الصينية، فيما دعت شركات تصنيع السيارات البرازيلية الحكومة إلى فتح تحقيق لمكافحة الإغراق.
أما بالنسبة لمعظم الدول، فثمة خياران، كما تقول سونال فارما، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة آسيا (باستثناء اليابان) في بنك نومورا الياباني.
الأول هو عدم اتخاذ أي إجراء، ومشاهدة قطاعات التصنيع تتآكل تدريجياً. أما الخيار الثاني، فهو فرض رسوم جمركية وتدابير حمائية محددة على غرار ما فعلته الولايات المتحدة مع الصين، لكن هذا قد يُغضب بكين، التي تستخدم التجارة والاستثمار كأدوات ضغط دبلوماسية، أو يُثير غضب واشنطن.