خاص المدى
في ظل التوترات المستمرة بين الولايات المتحدة وإيران، تواصل واشنطن اتباع سياسة “العصا والجزرة” في محاولة للتوصل إلى اتفاق نووي جديد مع طهران. فبينما تسعى الإدارة الأميركية إلى إيجاد حل دبلوماسي، لا تتردد في استخدام أوراق الضغط العسكرية والاقتصادية لفرض تنازلات على الجانب الإيراني. من جهة أخرى، تُظهر إيران موقفًا حازمًا، مؤكدة استعدادها لمواجهة أي تهديدات قد تتعرض لها، مع التأكيد على قدرتها على التصعيد العسكري إذا اقتضت الضرورة. وبين التهديدات والمفاوضات، يبقى السؤال الأهم: هل سيتمكن الطرفان من الوصول إلى توافق يؤدي إلى اتفاق نووي جديد؟ وما هي التنازلات التي قد يقدمها كل طرف لإنجاح هذا الاتفاق في ظل الضغوط الداخلية والإقليمية المتزايدة؟
الخبير في الشؤون الايرانية د. محمد شمص أكّد عبر “المدى” أنّ استمرار تخصيب اليورانيوم هو “من الثوابت الإيرانية التي تُعدّ خطوطًا حمر في أي مفاوضات، وبالتالي، فإن رفض الجانب الأميركي لهذا المبدأ يعني عمليًا نهاية مسار التفاوض. ومع ذلك، هناك قناعة بأن الولايات المتحدة ستعود في نهاية المطاف إلى طاولة المفاوضات، وستناقش مسألة مستوى التخصيب، لا مبدأه، وإيران مستعدة للنقاش حول النسبة، وربما تعود إلى مستوى 3.67% كما كان متفقًا عليه في الاتفاق النووي لعام 2015”.
لكن المفارقة تكمن، وفق شمص، “في أن الأميركيين يقولون شيئًا أثناء المفاوضات، ثم يخرجون إلى الإعلام ليصّرحوا بشيء مختلف تمامًا. ففي الوقت الذي لا يتم مناقشة “تصفير التخصيب” داخل المفاوضات، يظهر المسؤولون الأميركيون في العلن ويؤكدون أن هدفهم هو الوصول إلى صفر. وفي خضم هذه التناقضات، خرج الإمام علي الخامنئي أمس، بعد مرور أربع جولات من الحوار، بموقف واضح وصريح، حيث أكد في تصريح علني أن تخصيب اليورانيوم هو خط أحمر بالنسبة لإيران، و”لن نسمح لأحد أن يُملي علينا ما يجب فعله”، وهذا الموقف الحاسم من أعلى سلطة في إيران يوضح أن حق التخصيب غير قابل للمساومة، وأن السيادة الوطنية لإيران لا تُناقَش على طاولة المفاوضات”.
واعتبر شمص أنه “ليس من مصلحة واشنطن إفشال المفاوضات، ولذلك ستسعى جديًّا للعودة إلى طاولة الحوار، مع العمل على تدوير الزوايا من أجل التوصّل إلى تفاهمات. في المقابل، أبدت إيران استعدادها لمناقشة مختلف القضايا، شرط عدم المساس بما تعتبره خطوطًا حمراء، وأبرزها: حقها في تخصيب اليورانيوم داخل أراضيها، وهو حق غير قابل للتفاوض؛ استمرار برنامجها النووي من دون تعطيل أو تفكيك؛ رفض مناقشة القضايا السيادية، وفي مقدمها منظومتها الدفاعية الصاروخية؛ ورفض طرح دورها الإقليمي أو علاقتها بحركات المقاومة ضمن إطار التفاوض أو مقابل أي تنازلات”.
ورأى شمص أن ‘لا خيار أمام الطرفين سوى الحوار، فالحل العسكري مرفوض. وفي البيت الأبيض اليوم، هناك تياران رئيسيان: الأول يدفع نحو الحرب، ويمثله قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل كوريلا، ومستشار الأمن القومي المقال مايك والتز، إلى جانب مسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية. (CIA) أما التيار الثاني، فيؤيد المسار الدبلوماسي، ويقوده دونالد ترامب، ونائبه جيه دي فانس، ومبعوثه ستيف ويتكوف، ورئيسة موظفي البيت الأبيض، بالإضافة إلى مسؤولين آخرين يرون أن الاتفاق مع إيران يخدم مصالح الطرفين.
وأضاف أن الإدارة الأميركية “تدرك أن أي مواجهة عسكرية مع إيران ستكون باهظة الكلفة، ليس فقط على الولايات المتحدة، بل على إسرائيل وحلفائها في الخليج أيضًا، كما أنها قد تؤدي إلى كارثة اقتصادية عالمية. وقد عبّر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عن هذا الواقع بوضوح حين قال: “سنغلق مضيق هرمز إذا تم إغلاق طريق تصدير النفط أمامنا. النفط للجميع أو لا أحد.” وهذا التهديد، الذي يصدر لأول مرة بشكل مباشر من الرئيس الايراني، يعكس مدى خطورة المرحلة الراهنة”.
وأكد شمص أن الأوضاع الداخلية، سواء في إيران أو في الولايات المتحدة، تفرض ضغوطًا متزايدة على كل من الإدارة الأميركية والقيادة الإيرانية من أجل إنجاح الاتفاق النووي. ومن الواضح أن الطرفين يرغبان في التوصل إلى اتفاق؛ فالإيرانيون حريصون على تحقيق انفراجة اقتصادية، بينما يسعى الأميركيون إلى احتواء التصعيد. أما المعارضون للاتفاق، سواء داخل البيت الأبيض أو في إسرائيل، فقد تم تحجيم دورهم موقّتًا، حيث تم كبح الفريق المتشدد في الإدارة الأميركية، وكذلك تم احتواء تحركات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خشية اندلاع حرب واسعة قبل انتهاء مسار المفاوضات.
وقد بدا واضحاً لشمص بأنّ ترامب “لا يناور في ملف الاتفاق مع إيران، بل يظهر رغبة حقيقية في إنجازه، رغم أن الثقة بالولايات المتحدة ليست سهلة، خاصة بعد تجارب سابقة من “دبلوماسية الخداع” خلال الحروب على غزة ولبنان، لكن المؤشرات الحالية تختلف، من لجم نتنياهو، وتسريبات الصحافة الأميركية حول خططه لضرب إيران في مطلع أيار، كل ذلك يشي بوجود توجه أميركي جاد نحو التهدئة”.
وشرح أن ترامب “يسعى إلى تعزيز الاقتصاد الأميركي، وهو يرفع شعار “أميركا أولًا”، ويطمح إلى خفض البطالة وسداد الديون. ومن هذا المنطلق، زار دول الخليج لتنفيذ صفقات بمليارات الدولارات، قيل إنها وصلت إلى 5 تريليونات دولار، ولضمان استمرار تدفق البترودولار الخليجي إلى واشنطن، لا بد من استقرار المنطقة. أما الحرب مع إيران فستعني الخراب والدمار، وتهديد منابع النفط، ما سيُفقد أميركا مصدرًا ماليًا أساسيًا لطالما اعتُبر ركيزة في دعم اقتصادها”.
لكن شمص رأى أن واشنطن “لا تزال تتبع سياسة “العصا والجزرة” في تعاطيها مع ملف إيران؛ فهي تُبدي رغبتها في التوصل إلى اتفاق معها، لكنها في الوقت ذاته تسعى لاستخدام أوراق الضغط المتاحة لها، من خلال التهديد العسكري والتلويح بشنّ حرب عليها، مُعتقدة بذلك أن هذا النهج كفيل بدفع طهران إلى تقديم تنازلات. لكن الوقائع تُظهر خلاف ذلك. فقد أعلنت إيران استعدادها الكامل لمواجهة أي مواجهة عسكرية محتملة، واستنفرت قواتها البحرية والصاروخية وقواعدها العسكرية، ووجّهت رسائل واضحة إلى مختلف الأطراف في المنطقة والعالم. كما أكدت أنه في حال تعرّضها لضغوط شعبية داخلية، فإنها قد تتجه إلى امتلاك القنبلة النووية، وقد تُقدم على إغلاق مضيق هرمز، واستهداف القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة، إلى جانب المنشآت النفطية الحيوية في دول الخليج التي قد تُجبر على المشاركة في أي عمل عسكري ضدّها. وهذا يعني، ببساطة، إشعال المنطقة وربّما العالم بأسره، ما سيُكبّد الولايات المتحدة وحلفاءها كلفة باهظة”.
من هنا، فإن التهديد بالخيار العسكري لا يُرهب طهران، وفق شمص، ولا يدفعها إلى تقديم تنازلات، “فالتوصل إلى اتفاق يتطلب تنازلات متبادلة من الطرفين، وإيران أظهرت قدرًا من المرونة واستعدادًا للتفاوض، وعلى الولايات المتحدة أن تبادلها هذه المرونة، عبر خطوات جدّية أبرزها رفع العقوبات بشكل كامل عنها وعن برنامجها النووي”.
ولفت شمص الى أن دول الخليج “تجد نفسها اليوم في موقف بالغ الحساسية فهي شريكة استراتيجية للولايات المتحدة ولا تستطيع عمليًا رفض الانخراط في أي مواجهة أميركية مع إيران، خاصة إذا تم استخدام قواعدها العسكرية أو أجوائها في هذه الحرب”، مشيرًا في هذا السياق، إلى أن الولايات المتحدة “تعوّل على هذه القواعد لشنّ أي هجوم محتمل على طهران، سواء بموافقة حكومات الخليج أو من دونها”.
وأكّد في المقابل، أنّ إيران وجّهت “رسائل واضحة وصريحة وحازمة إلى المسؤولين الخليجيين، مفادها أن أي دعم لوجستي يُقدَّم لواشنطن في حال اندلاع الحرب سيجعل تلك الدول شريكة مباشرة في العدوان، وبالتالي ستكون أهدافًا مشروعة للصواريخ الإيرانية، بما في ذلك البالستية وفرط الصوتية، التي أظهرت فعاليتها في عملية “الوعد الصادق 2″ ضد إسرائيل. وبناءً على ذلك، لعبت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، دورًا ضاغطًا على الإدارة الأميركية لمنع التصعيد، إذ تدرك جيدًا أن أي حرب من هذا النوع ستكون مدمرة وشاملة، ولن تدفع إيران وحدها ثمنها، بل ستطال تداعياتها الخليج وإسرائيل ومصالح أميركا في المنطقة”.