في تحوّل لافت قد يعكس تبدّلًا في المزاج السياسي بواشنطن، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة تصريحات غير مألوفة تجاه موسكو، أعرب فيها عن عدم رضاه عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ملمّحًا إلى احتمال فرض عقوبات جديدة على روسيا، رغم التقدم الميداني الذي تحققه قواتها على الأرض. في المقابل، أشاد ترامب بشجاعة الأوكرانيين، وبفعالية الأسلحة الأميركية في صدّ الهجمات الروسية.
هذه النبرة الجديدة في الخطاب الأميركي تثير تساؤلات عدة: هل تمثّل هذه التصريحات ضغطًا تمهيديًا لدفع موسكو نحو طاولة التفاوض وفق شروط أميركية؟ أم أنها مجرّد مناورة سياسية ضمن سياق التوازنات الدولية؟ وما مدى تأثيرها على مستقبل العلاقات الروسية ـ الأميركية، وعلى مسار الحرب المستمرة في أوكرانيا، وفرص التسوية السياسية في ظل الوقائع المتغيرة على الأرض؟
الخبير في الشؤون الروسية والمقيم في موسكو، د. عماد الطفيلي، ذكّر بأن تهديد ترامب بفرض عقوبات جديدة على روسيا ليس جديدًا، مشيرًا إلى أن موسكو تواجه منذ سنوات آلاف العقوبات الغربية المتصاعدة. ورأى أن الهدف من هذه التهديدات هو ممارسة ضغط سياسي على بوتين لدفعه نحو تقديم تنازلات، “لكن من الواضح أن الكرملين لا يستجيب بسهولة لهذا النوع من الضغوط .”
واستبعد الطفيلي إمكان فرض عقوبات أميركية جدية في الوقت الراهن، معتبرًا أن أي تصعيد من هذا النوع قد يضر بالعلاقات بين موسكو وواشنطن، “وهو ما يسعى ترامب إلى تجنبه”.
وأوضح أن “القيادة الروسية أكدت مرارًا قدرتها على التكيف مع العقوبات، من دون أن يؤثر ذلك على مسار تنفيذ أهداف عمليتها العسكرية، المتمثلة في اجتثاث الفصائل النازية من أوكرانيا، وضمان حيادها بعيدًا من حلف الناتو، ومنع نشر أسلحة نووية داخل أراضيها، إضافة إلى ترسيخ سيطرتها على المناطق التي حرّرتها في دونباس”.
وقال “إن الدول الغربية التي فرضت العقوبات تضررت بدورها اقتصاديًا، من خلال ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأساسية، ما يثبت أن هذه الإجراءات لم تنجح في كبح التقدم الروسي على الأرض”.
وأعرب الطفيلي عن اعتقاده بأن تهديدات ترامب “قد تكون مجرّد مناورة سياسية تهدف إلى الضغط على بوتين لتقديم تنازلات، غير أن هذا الاحتمال يبدو مستبعدًا تمامًا، إذ إن روسيا، التي قدّمت تضحيات كبيرة وواجهت آلاف العقوبات الاقتصادية من مختلف الدول، لن تتراجع أو تتوقف في منتصف الطريق، بل ستواصل بقوة تنفيذ أهداف عمليتها العسكرية والدفاع عن مصالحها القومية، رغم الدعم الغربي الهائل لأوكرانيا”.
ولاحظ الطفيلي وجود تناقض واضح في تصريحات ترامب، قائلاً: “فهو من جهة يتحدث عن وقف إرسال الأسلحة، ومن جهة أخرى يؤكد استمرار الدعم العسكري، في رسالة ضمنية لحلفائه الغربيين لمواصلة الدعم، لأن الغرب لا يريد أن تخرج روسيا منتصرة من هذه الحرب.”
وأضاف: “لقد اعتقد الغرب أن العقوبات الاقتصادية الضخمة ستشلّ الاقتصاد الروسي وتدمّره، لكن العكس هو ما حدث؛ إذ تمكّنت روسيا من التكيّف مع هذه الضغوط، بل واستفادت منها في تطوير بنيتها الاقتصادية الداخلية”.
وذكّر بموقف موسكو الداعم في الأصل للحل السلمي، مشيرًا إلى أنها كانت تدعو إليه منذ بداية أزمة دونباس، لا سيما عبر اتفاقيات مينسك التي نصّت على بقاء دونباس ضمن الأراضي الأوكرانية، مع منحها نوعًا من الحكم الذاتي أو صلاحيات خاصة، بضمان فرنسي وألماني. لكن تبيّن لاحقًا، وفق الطفيلي، أن هذه الاتفاقيات لم تكن سوى غطاء لتمكين الجيش الأوكراني وتجهيزه.
وأوضح أن روسيا لم تكن ترغب في صراع مسلّح، خاصة وأن الشعبين الروسي والأوكراني شعبان شقيقان، إلا أنها وجدت نفسها مضطرة أو جُرّت إلى الحرب. واستشهد بتصريحات ترامب نفسه، الذي أقرّ بأن بايدن وزيلينسكي بذلا جهودًا حثيثة لاستفزاز موسكو ودفعها للتدخل العسكري.
وتابع: “الهدف كان تدمير روسيا، لكن التاريخ الروسي يُثبت أن كل قوة غازية حاولت إخضاعها فشلت، سواء في حملة نابليون عام 1812، حين دخل موسكو ثم طُرد منها حتى بلغ الجيش الروسي باريس، أو خلال الحرب العالمية الثانية، عندما وصلت جيوش هتلر إلى مشارف موسكو، قبل أن يحررها الجيش الروسي ويصل إلى برلين. وبناءً عليه، من المرجّح أن تخرج روسيا منتصرة من هذه الحرب أيضًا”.
وأشار الطفيلي إلى أن “العقلية الروسية معروفة تاريخيًا، فعند شعورها بأي خطر وجودي، تتوحّد كل طبقات المجتمع، من الأغنياء إلى الفقراء، في صف واحد لمواجهة المعتدي. والتاريخ الروسي حافل بشواهد على هذا التماسك الوطني”.
ورأى أن “الرهان على تفتيت الداخل الروسي أو زعزعة ولاء الشعب لقيادته هو رهان خاسر”، مضيفًا: “الشعب الروسي بطبعه وطني، ويكنّ احترامًا كبيرًا لرئيسه، لما حقّقه من إنجازات منذ توليه السلطة عام 2000. فبعد أن كانت روسيا في التسعينات على شفا الانهيار، استطاع بوتين توحيد البلاد، واستعادة الاستقرار، وتحويلها من دولة منهكة تستجدي الدعم إلى قوة مؤثرة اقتصاديًا وسياسيًا على الساحة الدولية”.
وأدرج الطفيلي وصف ترامب للجنود الأوكرانيين بأنهم “شجعان” في سياق محاولته منحهم دفعة معنوية، فترامب وحلفاؤه الغربيين لا يخسرون شيئًا فعليًا على الأرض، فيما يدفع الشعب الأوكراني الثمن الأكبر، بفقدان آلاف من شبابه في هذه الحرب. ومن الطبيعي في ظل هذا الواقع أن يُقدَّم لهؤلاء الدعم المعنوي، كونهم يقاتلون بالنيابة عن الغرب”.
وأشار إلى أن “الواقع الميداني يشير بوضوح إلى تقدّم الجيش الروسي، الذي يحقّق انتصارات ملموسة في مناطق مثل سومي وزابوريجيه، ويتقدم بوتيرة متفاوتة بين البطيئة والسريعة”. وطمأن الى أنّ “الوضع يميل بوضوح لصالح روسيا. ولولا الدعم الغربي الضخم، خصوصًا من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، لكانت الأزمة قد انتهت منذ وقت طويل. فإذا كان ترامب أو الغرب جادّين فعلًا في إنهاء الحرب، فعليهم أولًا وقف إمدادات السلاح، وعندها فقط يمكن أن تتوقف المعارك سريعًا”.
واستغرب الطفيلي محاولة ترامب إظهار تعاطف مع الجنود الروس، “في الوقت الذي يغض فيه الطرف عن معاناة المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، الذين يعانون منذ أكثر من عام ونصف من حرب إبادة متواصلة، مع دعم ترامب لحلفائه الإسرائيليين في هذه الحرب”.
وتساءل: “لماذا لا يتحسس ترامب معاناة الغزاويين والفلسطينيين بنفس القدر؟ إذا كان الغرب حقًا يريد السلام، فعليه أولًا وقف إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، والضغط على زيلينسكي لقبول مطالب روسيا، والسماح لها بتحقيق أهداف عمليتها العسكرية سلمًا، وإلا ستستمر المعركة بلا نهاية”.
ورأى الطفيلي أن الحرب يمكن أن تنتهي بصلح، قائلاً: “كل الحروب تنتهي بمفاوضات جادة، وروسيا مستعدة لهذا الحوار، ولكن على أساس تحقيق مطالبها وشروطها الأساسية. وأبرز هذه الشروط أن تكون أوكرانيا دولة محايدة، كما تم الاتفاق عليه عند استقلالها عام 1992، بحيث تكون غير نووية وغير معادية لروسيا. كما يجب احترام حقوق الشعب الروسي داخل أوكرانيا، والسماح لهم بالتحدث بلغتهم من دون قيود، بالإضافة إلى اعتراف النظام الأوكراني بالقرم كجزء من الأراضي الروسية. ويشمل ذلك أيضاً الاعتراف بجمهوريات الدونباس ولوغانسك وزاباروجيه وغيرها كمناطق روسية تاريخية عادت إلى حضن الوطن”.