خاص “المدى”
في ظل التصعيد العسكري المتواصل بين روسيا وأوكرانيا، والتوترات المتزايدة على الجبهات الميدانية، عُقدت في إسطنبول جولة جديدة من المفاوضات بين وفدي البلدين، وسط ترقّب دولي حذر بشأن مصير هذه المحادثات.
استضافة تركيا لهذه الجولة تعكس سعي أنقرة إلى لعب دور الوسيط في واحدة من أكثر الأزمات حساسية على المستوى العالمي، حيث تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية.
وبين استمرار الضربات الجوية، وتبادل الرسائل النارية، ومحاولات التهدئة السياسية، تظل التساؤلات مطروحة حول فرص نجاح هذه المفاوضات، ومدى قدرة الأطراف المعنية على كسر الجمود والتوصل إلى تفاهمات حقيقية تُنهي الحرب وتفتح باب السلام.
من اسطنبول، سلّط المحلل السياسي التركي جواد غوك الضوء على جولة المفاوضات الروسية ـ الأوكرانية التي احتضنتها تركيا، وأبرز دور تركيا التي تمتلك، وفقه، “موقعًا جيوسياسيًا حساسًا يجعلها فاعلًا استراتيجيًا مهمًا في المنطقة”، مشيراً إلى أنه “على الرغم من كونها عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإن علاقاتها المتوازنة مع كل من روسيا وأوكرانيا تمنحها هامشًا دبلوماسيًا فريدًا”، وذكّر بأنه “سبق لأنقرة أن قامت بوساطات ناجحة، وهي تتمتّع بخبرة دبلوماسية متراكمة، فضلاً عن تقاربها الجغرافي وعلاقاتها الجيدة مع الطرفين”.
لكن غوك، لفت في المقابل، إلى أن “هناك أزمة ثقة عميقة بين موسكو وكييف، فضلًا عن أن حدّة الصراع وتشابك المصالح الاستراتيجية الدولية – خصوصًا بين الولايات المتحدة والصين – يشكّل عائقًا أمام أي اختراق كبير. ومع ذلك، تستمر تركيا في السعي لإحداث خرق إيجابي، وإن كان طريق الوساطة لا يزال صعبًا”.
وعدّد غوك أبرز القضايا التي نوقشت في هذه الجولة وقد شملت: إعلان هدنة موقتة، ضمانات أمنية متبادلة، التأكيد على وحدة الأراضي الأوكرانية، وطلب روسي بأن تتخلى أوكرانيا عن فكرة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. كما طُرحت مطالب روسية بانسحاب أوكرانيا من مناطق مثل دونيتسك ولوغانسك، إضافة إلى ملفات إنسانية مثل تبادل الأسرى وإعادة الأطفال.
على رغم مناقشة هذه القضايا، لم يتم التوصل إلى اتفاق فعلي، إذ ترى أوكرانيا أن الشروط الروسية تعني الاستسلام الكامل، وهو ما ترفضه. مع ذلك، فإن تصريحات المتحدث باسم الخارجية التركية تشير إلى أن الجولة لم تكن فاشلة تمامًا”. وقال:”صحيح أن توافقًا شاملًا لم يتحقق، لكن التواصل مستمر، وكلا الطرفين يبدوان راغبين في إبقاء باب الحوار مفتوحًا”.
وأعرب غوك عن اعتقاده بأن المستقبل “قد يشهد تقدمًا جزئيًا في بعض الملفات الإنسانية، مثل تبادل الأسرى أو فتح ممرات للمساعدات”. وقال:”هذه مؤشرات صغيرة لكنها تعكس وجود حدّ أدنى من الإيجابية في مسار المفاوضات”.
وعن تأثير التصعيد العسكري الأخير بين روسيا وأوكرانيا، على سير المفاوضات؟ رأى غوك أن هذا التصعيد ” يُضعف فرص التوصل إلى مصالحة حقيقية. فكل طرف يسعى لتحقيق مكاسب ميدانية لتعزيز موقعه التفاوضي، ما يقلّل من روح التفاهم داخل غرفة المفاوضات. روسيا قد ترى في التصعيد وسيلة للضغط وكسب أوراق جديدة، فيما تحاول أوكرانيا الصمود وتحسين موقفها التفاوضي”.
ولفت إلى أن “هذا الوضع يخلق أجواء من عدم الثقة، ويشوّش على مسار الحوار، حيث تتبدّل أولويات المفاوضات وتصبح أكثر حساسية وتعقيدًا. المفترض أن ترافق المفاوضات تهدئة عسكرية تخلق مناخًا بنّاءً، لكن استمرار القتال يُربك العملية ويجعل المفاوضات أكثر توتّرًا في إسطنبول. باختصار، التصعيد لا يُسرّع التفاهم، بل يهدد بإفشاله”.
واكد غوك أن التصعيد العسكري “يُستخدم كورقة ضغط من قِبل الأطراف المتصارعة لتحسين مواقعها التفاوضية”، مشيراً إلى أن “بعض الدول الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا، تستغل هذا التصعيد للضغط على روسيا، ودفعها نحو تقديم تنازلات. من جهة أخرى، ورغم استمرار المفاوضات، لم تُبدِ روسيا حتى الآن موقفًا رسميًا واضحًا بشأن التزامها بمتابعة الحوار أو القبول بوقف إطلاق نار طويل الأمد”.
أضاف: “فعلى سبيل المثال، رفضت موسكو اقتراح هدنة لمدة 30 يومًا، رغم الاتفاق على تبادل الأسرى، مما يدل على أن هناك استعدادًا محدودًا فقط للتعاون. أوكرانيا، من جهتها، عبّرت عن رغبتها في الاستمرار بالمفاوضات، لكن غياب رد روسي واضح يزيد من الغموض حول مستقبل هذه المحادثات. التصعيد المستمر، كالهجمات بالطائرات المسيّرة، يؤكد أن العمليات الميدانية ما زالت جزءًا من أدوات التفاوض”.
وعن العوامل التي يمكن أن تسهم في نجاح المفاوضات المقبلة؟ قال غوك: “إنّ العوامل الأساسية لنجاح المفاوضات المقبلة تبدأ أولًا ببناء حدٍّ أدنى من الثقة بين الطرفين. كما أن المواضيع المطروحة يجب أن تكون عملية وواقعية، مثل تبادل الأسرى، حماية المدنيين، إعلان هدنة، وفتح ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية. هذه الملفات الإنسانية يمكن أن تفتح المجال أمام تفاهمات لاحقة. أما القضايا الشائكة، كمسألة انضمام أوكرانيا إلى الناتو أو مصير الأراضي التي سيطرت عليها روسيا، فيُفضّل تأجيلها إلى جولات لاحقة، لأنها تحتاج إلى ترتيبات سياسية وأمنية معقدة. كذلك، وجود ضمانات دولية ودعم من قوى فاعلة في المجتمع الدولي يمكن أن يوفّر بيئة إيجابية ويدفع باتجاه تحقيق نتائج ملموسة في المسار التفاوضي”.