كان مصرف لبنان يعاني من عجز قدره 4,7 مليارات دولار في احتياطياته في نهاية العام 2015 ولم يسبق الكشف عنه فيما كان يمثل علامة تحذيرية من الانهيار المالي الذي محا تقريباً مدخرات الكثيرين.
ورد هذا الرقم في تقرير بتاريخ نيسان 2016 أعدّه صندوق النقد الدولي للسلطات المالية اللبنانية.
وجاء في التقرير السرّي أنّه رغم أنّ إجمالي احتياطيات مصرف لبنان كان مرتفعاً إذ بلغ 36,5 مليارات دولار “صافي الاحتياطيات، بعد احتساب مطالبات المصارف التجارية من المصرف المركزي، والذهب كان سالب 4,7 مليارات دولار أميركي في كانون الأول 2015”.
وظلّت خسائر البنك المركزي تتضاعف بمرور الوقت حتى تبددت ثقة المستثمرين وسط احتجاجات شعبية على النخبة الحاكمة في 2019.
وقالت ثلاثة مصادر مطلعة إنّ سلامة أصرّ بنفسه في حديثه مع مسؤولي صندوق النقد على عدم نشر الرقم لأنّه كان سيتسبب في زعزعة استقرار السوق المالية.
وسئل متحدث باسم البنك المركزي عن سبب عدم نشر العجز في صافي الاحتياطيات في تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في كانون الثاني 2017 فقال متحدثاً بالنيابة عن سلامة إنّ “المصرف المركزي لا يملك سلطة تغيير تقارير صندوق النقد الدولي” وامتنع عن التعليق على هذه النقطة.
واعتبر المتحدث أنّ “تحريف أسباب الأزمة للتركيز على مصرف لبنان تصرّف غير مهني ويستخدم لإلقاء المسؤولية على مؤسسة واحدة هي المؤسسة المدنية الوحيدة التي لا تزال تبقي على النظام (المالي) رغم الأزمة الحادة”.
وسألت “رويترز” متحدثاً باسم صندوق النقد الدولي عن سبب غياب الرقم في التقارير المنشورة وعما إذا كان من الواجب أن يقوم الصندوق بدور أكثر استباقية في المطالبة بإصلاح الوضع، لكنه امتنع عن تناول مسألة حذف العجز البالغ 4,7 مليارات دولار.
وقال إنّ التقرير “طرح تحذيراً مبكراً وحلولاً ممكنة لتقوية النظام المالي”.
وأضاف المتحدث أنّ الصندوق “شدّد على ضرورة تقليص المخاطر الاقتصادية والمالية ومنها الاعتماد على تدفقات الودائع الجديدة لتغطية العجز المالي والخارجي الكبير”.
وأوضح أنّ الصندوق “أشار أيضاً إلى أنّ موارد كبيرة مطلوبة لضمان الحفاظ على ملاءة رؤوس أموال البنوك في حال حدوث صدمة حادّة”.
وعندما نضبت تدفقات النقد الأجنبي في 2019 منعت البنوك، التي يساهم في عدد كبير منها ساسة بارزون، أصحاب الودائع من سحب أموالهم. وفرضت قيوداً على عمليات السحب من الحسابات واقتصر أغلبها على الليرة اللبنانية التي فقدت 90 في المئة من قيمتها.
التحقيق المالي في حسابات مصرف لبنان
بحلول العام 2020 تضخم عجز المصرف المركزي إلى 50 مليار دولار وبلغ إجمالي خسائر البنك 83 مليار دولار وفقاً لما ورد في خطة إنقاذ أعدتها وزارة المال في نيسان من ذلك العام. ويشكك البنك المركزي وجمعية مصارف لبنان في صحة هذه الأرقام غير أنهما لم يعلنا أرقاماً بديلة.
ويعدّ التحقيق المالي الجنائي في حسابات البنك المركزي شرطاً لحصول لبنان على صفقة إنقاذ هو في حاجة ماسة إليها من صندوق النقد الدولي. وقد استؤنف التحقيق هذا الأسبوع بعد توقف استمرّ قرابة العام بسبب خلافات على الاطلاع على المعلومات.
ولا يشترط أن تعلن الدول صافي احتياطياتها غير أنّ دولاً كثيرة تفعل ذلك. وقال مسؤولان كبيران سابقان إنّ الإفصاح عن مواطن الضعف المالي في بدايات الأزمة كان من الممكن أن يجنب البلاد تراكم الديون الذي جعل الانهيار المالي بهذه الفداحة.
وقد دفعت الأزمة بنحو 74 في المئة من سكان البلاد إلى صفوف الفقراء وفقاً لما قالته الأمم المتحدة. ووصف البنك الدولي الأزمة بأنّها من أسوأ حالات الركود في التاريخ الحديث.
وقال البنك الدولي في نيسان إنّ “الوطأة الاجتماعية، التي كانت شديدة بالفعل، يمكن أن تصبح كارثية”. فحتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ظلّت البنوك تعمل وهي قادرة على الوفاء بالتزاماتها.
من جهته، أوضح أحد مفاوضي الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد ومستشار وزير المال حتى حزيران 2020 هنري شاوول: “غياب الإفصاح هذا دفع بنا إلى حيث نحن لأنّ المودعين كانوا سيأخذون قرارات مختلفة لو علموا بهشاشة البنوك وانكشافها”.
وقد استقال شاوول بعد أن شككت البنوك التجارية والمصرف المركزي والنخبة الحاكمة في حجم الخسائر التي تكبدها النظام المالي وكيفية توزيعها مما أدى إلى نسف خطة إنقاذ حكومية والمحادثات مع صندوق النقد الدولي.
وردد توفيق كسبار الاقتصادي، الذي كان مستشاراً لصندوق النقد الدولي ووزير مال سابقاً، آراء مماثلة لما أبداه شاوول.
وقال كسبار إنّه لو أتيحت المعلومات الواردة في تقرير 2016 لعامة الناس لكانت وطأة الأزمة أقل ضرراً بكثير على المودعين. وأضاف أنّه كان سيتعين تطبيق سياسات من شأنها وقف الخسائر التي وصفها بالنزيف.
أما كبير الاقتصاديين في بنك “بيبلوس” نسيب غبريل فقال إنّ المصرف المركزي حاول الحفاظ على الثقة في السوق وكان في الوقت نفسه ينتظر أن تنفذ السلطات إصلاحات، مشيراً إلى أنّ الانهيار يرجع إلى الإهدار والفساد على مدى سنوات.
وهو يرى أنّ نشر رقم العجز 4,7 مليارات دولار “لم يكن ليغير مسار الأحداث لأنّ وكالات التصنيف الائتماني والمؤسسات المالية الدولية نبهت السلطات مرّات عديدة إلى ضرورة تطبيق الإصلاحات”.
كسب الوقت
قال سلامة مراراً إنّه يعمل على كسب الوقت فقط حتى يتفق ساسة لبنان على الإصلاحات لخفض العجز في الموازنة العامة وإنه ليس مسؤولا عن إخفاقهم في ذلك.
وردّاً على سؤال عما إذا كان من واجب صندوق النقد أن يقوم بدور استباقي في الضغط من أجل نشر رقم العجز في صافي الاحتياطيات، قال المتحدث باسمه إن على “رويترز” الرجوع إلى قواعد الشفافية الخاصة بالصندوق.
وتنصّ هذه القواعد على أنه يجوز لدولة ما أن تطلب حذف موادّ غير منشورة من تقرير ما إذا كانت “المادة شديدة الحساسية للأسواق وهي في الأساس وجهات نطر الصندوق في التوقعات الخاصة بأسعار الصرف الأجنبي وأسعار الفائدة والقطاع المالي وتقييمات السيولة والملاءة السيادية”.
وامتنع المتحدث باسم الصندوق عن قول ما إذا كان لبنان قد تقدم على وجه التحديد بهذا الطلب ولم يتطرق إلى ما إذا كان هناك حدّ رسمي لحجم صافي الاحتياطيات.