حين قام البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بجولته، أول من أمس، بدءاً من مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، كان الانطباع الأولي لدى قوى سياسية، وبعضها قريب من بكركي تاريخياً، بأن ما يقوم به الراعي غلطة كبيرة. الغلطة ليست في القيام بمحاولة للتهدئة وسحب التوتر السياسي، انطلاقاً من عظة الأحد التي ألقاها وتلاقى معه فيها متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة. بل في أن الراعي تسرّع في القيام بتحرك غير مدروس، بدأه من المكان «الأخطر»، أي من عند الرئيس نبيه بري الذي استدرجه إلى مكان غير محتسب. فوليمة الغداء لم تكن وحدها الطعم الذي نال من الراعي. إذ إن برّي الذي يحفظ غيباً موضوع المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ويتمسك به منذ أسابيع وأشهر، ويمتلك من الحنكة ومن الإعداد المحكم لهذا البند الذي يحمل كثيراً من الاجتهادات، تمكّن من سحب الراعي إلى حيث يريد. لكن الموافقة المتعجّلة للبطريرك لا تلاقي تأييد قوى سياسية، بعضها مقرب منه جداً، وجدت في مواقفه الأخيرة بعد حادثة عين الرمانة وتبنّيه التحقيق في قضية انفجار المرفأ والتحقيقات فيه، تسرعاً لا سوء نية. علماً أنه سبق للراعي أن حذّر بنفسه في عظته، في افتتاح السينودوس السبت، «من المقايضة بين أحداث الطيونة وتفجير المرفأ». فيما يشير المدافعون عن الراعي إلى أن تلاقيه مع مبادرة بري مردّها «الخوف من الوضع الراهن نتيجة تعطّل عمل الحكومة والمؤسسات، والقلق من التدهور الاجتماعي وذهاب الوضع في الداخل إلى مزيد من التشنجات. فكانت المقايضة بين عودة الحكومة إلى العمل مقابل إحالة النواب والوزراء السابقين إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء».

ترك التسرع البطريركي ارتدادات سريعة، وأظهر استياء كبيراً في حلقات سياسية ودينية، انطلاقاً من أنه لا يجوز لبكركي أن تدخل في زواريب الاتصالات من خلال جولات مباشرة على المرجعيات السياسية، حتى ولو كان الخطر كبيراً إلى الحد الذي وصلت إليه الأمور حالياً. فمهما كان شكل قبول الراعي بأي تسوية طرحها بري على طريقة المقايضة هو خطأ في حق أهالي ضحايا المرفأ ومصابيه والمتضررين من الانفجار، لأنه بدا أنه يقدّم طرفاً سياسياً على الضحايا وأهاليهم الذين يصرون على التمسك بتوجه المحقق العدلي طارق بيطار. وهذا يعني، حتى شكلاً، تفاوتاً في نظرة بكركي والتمييز بين ملفين قضائيين مختلفين من حيث الخطورة والتشابكات والمسؤوليات، على رغم أن الراعي كرر أكثر من مرة أنه إلى جانب أهالي الضحايا.

كذلك، فإن خطوته ظهرت وكأنها منسقة مع القوات اللبنانية، خصوصاً بعد استقبال الراعي قائد الجيش العماد جوزف عون وعرضه معه ملف التحقيقات، قبل استدعاء جعجع إلى مخابرات الجيش للاستماع إليه بناء على إشارة القاضي فادي عقيقي. وبمجرد الإيحاء بأن الخطوة قد تكون مبنية على تفاهم ما مع القوات التي احتشد مناصروها في معراب أمس، ظهر وكأن ثمة قلقاً قواتياً من مسار الملف القضائي والاحتمالات التي تضع جعجع أمام استعادة مشهد 1994. وهذا الجو أثار رد فعل فورياً، لأنه لا يصب في صالح الصورة العامة التي يحاول جعجع إظهارها، فحرصت القوات منذ أن تسربت أجواء التشكيك إلى نفي أي علاقة لها بتحرك الراعي الذي تعترف له في المقابل بمواقفه المبدئية وإصراره على إظهار الحق وتساوي الجميع تحت سقف القانون. وكانت ميالة أمس إلى إظهار أنها غير معنية بأي مقايضة، خصوصاً بعد تصاعد هجمة مناصري التيار الوطني الحر عليها واتهامها بالتخلي عن تحقيق المرفأ. وحرصت على إبلاغ المتصلين بها أن موقفها من انفجار المرفأ «لم يتبدل، كما الموقف الذي لا رجعة عنه في شأن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. وملف عين الرمانة منفصل تماماً عن المرفأ، ورفض الجمع بين الملفين، أو إسقاط القاضي بيطار من بوابة عين الرمانة». وتستند القوات في موقفها مجدداً إلى الإحاطة الحزبية بها، وإلى حد ما تصاعد أسهمها في الشارع المسيحي، وهذا ما عزز وضعيتها الانتخابية وتركيب بعض ماكيناتها الشعبية. كل ذلك معطوفاً على سحب أي إشكالية بينها وبين الجيش من واجهة الحدث، وهذا أمر لا تقلل من أهميته نظراً إلى تاريخ العلاقة بين الطرفين.
هذا يعني، في المحصلة، أن الأنظار ستتوجه بعدما مر يوم الأربعاء من دون حضور جعجع إلى وزارة الدفاع، وختم الجيش التحقيق وأحاله إلى القاضي عقيقي، إلى المعالجة السياسية مجدداً، خصوصاً أن لا مهل أمام عقيقي لإصدار مذكرة إحضار أو بلاغ بحث وتحر، ما يفتح المجال أمام معالجات من نوع آخر، وستكون مختلفة جذرياً عن المبادرة التي ولدت ميتة في عين التينة.