تعيش الساحة السياسية التركية صراعًا متصاعدًا بين الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، الذي يُعدّ أبرز منافس له في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومع تصاعد التوترات بين الطرفين، يواجه إمام أوغلو ضغوطًا متزايدة، حيث يسعى أردوغان لاستغلال قوته السياسية ومكانته داخل النظام لتركيز سلطته. وتكتسب هذه المواجهة بعدًا أكبر مع تعديلات دستورية محتملة قد تسمح لأردوغان بالترشح مجددًا في انتخابات 2028، ما يجعلها نقطة تحول حاسمة في مسار السياسة التركية.
وأمام ما تقدّم، اعتبر أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد نور الدين أنّ “ما يجري في تركيا اليوم له بُعد داخلي أساسي، يستفيد في الوقت نفسه من عوامل خارجية”. وأوضح أنّ إمام أوغلو، “يُعدّ الشخصية الأبرز والأكثر قوة التي تشكّل منافسة حقيقية لأردوغان في انتخابات الرئاسة المقبلة في 2028 إذا تمكّن الأخير من تعديل الدستور للترشّح مجدّدًا”.
وأكد أن الرئيس الحالي “يسعى من خلال القضاء، إلى اعتقال إمام أوغلو لتحقيق عدّة أهداف في وقت واحد، مستفيداً بذلك من المكاسب التي حقّقها اقليميًا ودوليًا، وتحديدًا في سوريا، وكذلك من علاقته الجيدة مع الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وعدم معارضة الأوروبيين له على خلفية موقفه من الحرب في أوكرانيا ومن ملفات أخرى كملف اللاجئين”.
ورأى نور الدين أنّ أردوغان يسعى “للانتقام من أكرم إمام أوغلو، الذي هزمه ثلاث مرات في الانتخابات البلدية لبلدية إسطنبول، عبر إزاحته من منصب رئيس بلدية إسطنبول واستعادة السيطرة على البلدية من خلال تعيين شخصية أخرى مكانه، مثل محافظ إسطنبول أو أي شخص آخر. بالإضافة إلى ذلك، يحاول أردوغان منع إجراء الانتخابات التمهيدية داخل حزب الشعب الجمهوري لاختيار مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية لعام 2028. من المتوقع أن يكون إمام أوغلو هو المرشح الرئيسي والمضمون انتصاره في هذه الانتخابات، وقد أعلن إمام أوغلو عن خطط لجولة شاملة في أنحاء تركيا للترويج لحملته في حال فوزه. لكن أردوغان يسعى من خلال منع هذه الانتخابات التمهيدية إلى وقف ظهور إمام أوغلو كمرشح قوي، وذلك عبر اعتقاله أو سجنه. فإذا تم سجنه لفترة طويلة، فلن يكون قادرًا على الترشح، ما سيوفر لأردوغان فرصة لتقليص قوته وقطع طريقه في السباق على الرئاسة”.
وقال:”إذا تم شطب إمام أوغلو من قائمة المرشحين للرئاسة، قد يؤدّي ذلك إلى صراع داخلي داخل حزب الشعب الجمهوري بين منصور يافاش (رئيس بلدية أنقرة) وكمال كليجدار أوغلو (رئيس الحزب) وهو ما يمكن أن يضعف موقفه بشكل أكبر في الانتخابات المقبلة”.
وأضاف نور الدين:”بطبيعة الحال، يرى حزب الشعب الجمهوري أنّ هذه القضية ليست قضية فرد أو شخص واحد، مثل أكرم إمام أوغلو، بل هي قضية تمسّ الحريات والديمقراطية. إنها محاولة انقلاب سياسي واضح في الحياة السياسية التركية، تهدف إلى إقصاء أبرز شخصية سياسية من رئاسة أهم بلدية في تركيا في هذا الوقت. لذلك، كانت ردّة الفعل شديدة، حيث أصبح الموضوع يخص جميع الأتراك ومعارضي سياسة أردوغان. وقد لاحظنا توحّد العديد من الأحزاب المعارضة حول إمام أوغلو، بما في ذلك الحزب الكردي وحزب المساواة والديمقراطية للشعوب الكردي، والحزب الجيد، وأحزاب أخرى معارضة، بالإضافة إلى حزب الشعب الجمهوري. وقد تحولت القضية بالتالي إلى مواجهة وصراع بين أردوغان وخصومه. يتعلق هذا الصراع بسيادة القانون والعدالة، كما يسعى المعارضون إلى منع توظيف الدولة والقضاء لخدمة مصالح سياسية ضيقة.”
ونبّه نور الدين إلى أن “الأخطر من ذلك والأهم هو أن حزب الشعب الجمهوري أعلن أنه من الآن فصاعدًا، لن يمارس السياسة في الصالونات بل في الساحات والشوارع. وبناءً على ذلك، شهدنا تجمعات ضخمة في مختلف المدن التركية، لا سيما أمام بلدية إسطنبول، حيث يتجمع الآلاف يوميًا.”
وقال: “إنّ أردوغان يعتقد أن محاولة كسر شوكة خصومه بهذه الطريقة، عبر فبركة القضاء واتهامهم بدعم الإرهاب أو الفساد، ستسهم في تعزيز قوته الداخلية. وهو يرى أن الظروف الحالية لصالحه؛ حيث يعتقد أنه الأقوى داخليًا، ويحظى بدعم خارجي، ولا يخشى من الضغوطات الخارجية سواء من الولايات المتحدة أو أوروبا. كما يمتلك ورقة قوية في الشرق الأوسط، حيث يحتاج الغرب إليه في هذه المرحلة، لا سيما في سوريا. بذلك، يهدف إلى استغلال هذه اللحظة لتغيير المعادلات السياسية الداخلية لصالحه ولإضعاف المعارضة.”
واستدرك نور الدين بالقول: “لكن الوضع خطير جدًا، ويعتمد تطور الأحداث على الأساليب والخطوات التي سيتبعها حزب الشعب الجمهوري. هل سيواصل التظاهر في الشوارع والساحات؟ هل سيتوجه إلى مواجهة مفتوحة في الشارع مهما كانت التكاليف؟ هل سيتغير الوضع وتعتبر المعارضة ما يحدث انقلابًا على الديمقراطية”؟
ولفت نور الدين إلى أنه “حتى الآن، لا يوجد وضوح حول هذه النقاط، وقد فُوجئت المعارضة بالتهم والفبركات الموجهة ضد أكرم إمام أوغلو. لذلك، لم تكن لديها خطة هجومية محكمة. لكن ما سيحدث في المستقبل يعتمد على تصرفات المعارضة، وأيضًا على ما إذا كانت السلطة ستتراجع أم لا، مع ترجيح عدم تراجع أردوغان، خصوصًا بعدما وجه القضاء له 7 تهم، وتمت تبرئته من تهمة الإرهاب، لكنه ملاحق بتهمة الفساد، ما أدى إلى اتخاذ قرار باعتقاله”.
ورأى نور الدين “أنّ هذه القضية مهمّة جدًا. فإذا نجح أردوغان في تمريرها، سيكون قد مهّد الطريق لتوسيع سلطة الاستبداد، خصوصًا أنّ كل الصلاحيات بيد رئاسة الجمهورية. لذلك، تتحمّل المعارضة مسؤولية كبيرة في محاولة منع تراجع الديمقراطية في البلاد.
وقال:”هذه المعركة يمكن اعتبارها معركة كسر عظم، خاصة إذا دخل أكرم إمام أوغلو إلى السجن، إذ ستواجه المعارضة خيارات صعبة، ويتوجّب عليها اتخاذ الخطوات اللازمة لرفع البطاقة الحمراء بوجه أردوغان، على الأقل لتعطيل ترشحه لرئاسة الجمهورية في 2028، ومنع محاولات تعديل الدستور سواء في البرلمان أو عبر استفتاء شعبي”.