تُعدّ الحرب في أوكرانيا واحدة من أكثر النزاعات تعقيدًا في العصر الحديث، حيث تجمع بين أبعاد جيوسياسية واقتصادية كبيرة تؤثر بشكل مباشر على استقرار العديد من الدول. ومنذ بداية النزاع، انقسمت القوى العالمية بين مؤيدين ومناهضين للتدخل العسكري المباشر، ما جعل الدبلوماسية والوساطات تلعب دورًا محوريًا في محاولة إيجاد حلول مستدامة.
في هذا السياق، تصدّر النزاع في أوكرانيا وإرساء هدنة جزئية فيها بعد حرب دامت أكثر من ثلاث سنوات، جدول أعمال المحادثات الأميركية ـ الروسية التي استضافتها الرياض أمس. “بعدما كسبت السعودية أوكرانيا، وخسرت سوريا، بينما خسرت قطر أوكرانيا وكسبت سوريا، في صراع سياسي غير معلن بين قطر وتركيا من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى”، كما أكد الباحث في الشؤون الدولية ومؤسس مركز بروجن للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية الدكتور رضوان قاسم. وأضاف “أن قطر تدخّلت في المفاوضات الأوكرانية ـ الروسية، ولكن السعودية تمكّنت من سحب البساط من تحتها بفضل قوتها الاقتصادية والسياسية، ما منحها دورًا رئيسيًا في هذه المفاوضات. وبالتالي، أصبحت الرياض المدخل الرئيسي لحل الصراع ووقف الحرب، وأخذت دورًا فاعلًا على الصعيدين الإقليمي والدولي.
في المقابل، رأى قاسم، أنه “رغم استفادة قطر من الوضع السوري، فإنها خسرت في أوكرانيا، وهو ما اعتبره العديد خطأ استراتيجيًا بالنظر إلى أهمية الدور في المفاوضات الدولية. أما السعودية، فقد نجحت في فرض نفسها في هذا الملف، ممّا جعل المفاوضات تتم على أراضيها وساهمت في مساعي التهدئة إلى جانب الوفد الأميركي، وذلك لوجود مصلحة مشتركة بين البلدين في لعب دور أساسي لوقف الحرب. وفي المستقبل، من المتوقع أن تتطور العلاقات السعودية ـ الروسية والأميركية، وكذلك مع أوكرانيا، مما يتيح للسعودية الاستفادة من الاتفاقيات الاقتصادية في مجالات الغاز والنفط، لتلعب دورًا سياسيًا واقتصاديًا بارزًا”.
ولاحظ قاسم أنّ “التفاهمات بين واشنطن وموسكو تؤكد أن الوضع يسير نحو تطبيق شروط روسيا، التي تُعدّ الأقوى ميدانيًا في هذه المرحلة”. وأضاف أن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة تتجه نحو التهدئة والتفاوض، مما يتيح للطرفين إمكان الحصول على صفقات اقتصادية، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة لا تزال تستورد بعض المواد الأساسية من روسيا، مثل الماس والمعادن الضرورية لها، رغم كل الأحداث والتوترات.
وتوقّع قاسم أن يزداد الضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي أهانه فيها، مؤكدًا أن روسيا لن تتنازل أو تتراجع عن مطالبها الأساسية.
وذكّر بأنّ من بين الشروط الأساسية التي وضعتها روسيا للمفاوضات: عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، تقليص حجم جيشها ليقتصر على الدفاع الداخلي فقط، وعدم السماح لها بتطوير أسلحة نووية. كما لا يمكن لأوكرانيا الانضمام بشكل كامل إلى الاتحاد الأوروبي، والأراضي التي سيطرت عليها روسيا مثل الدونباس التي يجب أن تظل تحت سيطرتها.
ولم يستبعد قاسم أن يكون زيلينسكي قد وافق بالفعل على هذه الشروط، وبالتالي ستكون التنازلات من جانب بوتين محدودة جدًا، مثل التعاون في بحر الأسود أو بعض التفاهمات بين واشنطن وكييف. وذكر أن روسيا قد أشارت للأميركيين الى أنه لا يمكن التفاوض مع زيلينسكي بعد رفضه التفاهمات، ما يعني أنه قد يتم البحث عن بديل له. كما أن ترامب دعا إلى إجراء انتخابات جديدة في أوكرانيا.
أما في ما يتعلق بالمعارك المستمرة بين كييف وموسكو ومستقبل الرئيس زيلينسكي، فلا يمكن النظر إليها على أنها صراع مباشر بينه وبين روسيا، ولا بين أوكرانيا وموسكو فقط، بل هي في جوهرها صراع بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من جهة، والولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى، وفق قاسم، مؤكداً أنّ الأوروبيين اليوم يساورهم قلق شديد اليوم بسبب تقارب موسكو وواشنطن، ما جعلهم خارج دائرة التأثير السياسي والمفاوضات. هذه الوضعية أدت إلى تقليص الدور الأوروبي بشكل كبير، ممّا دفعهم إلى محاولة إفشال المفاوضات بكل السبل المتاحة. فقد دعموا زيلينسكي ليواصل الحرب، بل قد يسعون لتصعيد الوضع عبر استهداف المنشآت الحيوية مثل المفاعلات النووية أو قواعد الطاقة”.
وقال: “في هذا السياق، سعى زيلينسكي إلى تقويض المفاوضات ظنًا منه أنه يستطيع إفشالها، لكن بوتين كان على دراية تامة بما يحدث، فأصدر أوامره لجيشه بعدم الرد على الهجمات التي استهدفت البنية التحتية للطاقة والمفاعلات النووية. هذا التوجه جاء نتيجة تفاهم بين موسكو وواشنطن على ضرورة إرساء نوع من الهدنة في هذا الصدد، ما أفشل المخطط الأوكراني-الأوروبي لتحويل الحرب إلى نزاع طويل الأمد”.
ووفق قاسم، فإن الحرب، رغم استمرار المفاوضات، تبقى في جوهرها صراعًا أوروبيًا بين حلف الناتو وروسيا. الأوروبيون يسعون إلى عرقلتها لأنهم خارج دائرة التأثير السياسي الذي تقوده واشنطن، والدول الأوروبية كانت دعمت سياسة الرئيس جو بايدن العسكرية منذ البداية، ما وسّع الفجوة بينها وبين ترامب الذي بدأ يضغط عليها، مع وصوله إلى البيت الأبيض لزيادة مساهماتها في تمويل حلف الناتو، مهدّدًا بالانسحاب الأميركي، ممّا عقّد العلاقة بين الطرفين”.
وقال:”من جهة أخرى، يسعى ترامب إلى الضغط في الملف الأوكراني، مُعلنًا أنه لا يريد الانخراط في الحرب لأنها ستؤثر سلبًا على الخزانة الأميركية. وبالتالي، إذا كان الأوروبيون يرغبون في السلام، فسيكونون مرحبًا بهم في هذا الاتجاه، أما إذا لم يكن ذلك خيارًا، فعليهم أن يواصلوا الحرب بمفردهم. ومع العلم أن الأوروبيين لا يستطيعون الاستمرار في الحرب دون الدعم الأميركي، فدعمهم لزيلينسكي يمكن تفسيره كوسيلة للضغط على ترامب. لكن هذا الوضع من المتوقع أن يتغير قريبًا بسبب عجزهم عن الاستمرار اقتصاديًا وعسكريًا. ثم هناك خلافات كبيرة داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؛ حيث تدعم بعض الدول استمرار الحرب بينما ترغب أخرى في إنهائها، خاصة تلك التي تأثرت اقتصاديًا، ولا سيما الدول التي كانت تحت النفوذ السوفياتي. لذلك، يبدو أن الموقف الأوروبي ضعيف حاليًا، ومن المتوقع أن يتغير قريبًا مع تقدم المفاوضات وتحقيق نتائج إيجابية، وهو الاتجاه الذي تسير فيه الأمور”.
وفي الملف النووي، اكد قاسم أن إيران ليست في وارد الدخول في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية، رغم قدرتها على الردّ على العديد من الهجمات مثل تلك التي استهدفت قنصليتها في سوريا أو محاولة اغتيال بعض الشخصيات البارزة مثل السيد حسن نصرالله وإسماعيل هنية، مشيراً الى انقسام داخل إيران بين الإصلاحيين والمتشددين، حيث كان الإصلاحيون بقيادة محمد جواد ظريف يدفعون نحو مفاوضات مع أميركا، بينما كان المرشد الأعلى خامنئي يقف ضد هذا التوجه، ما أثر على السياسة الإيرانية. وتوقع أن يكلّف ترامب بوتين بدور الوسيط بين الولايات المتحدة وإيران، خصوصًا بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا، حيث قد تؤدي المفاوضات إلى اتفاق بين الجانبين. وقال: إيران قد تتنازل عن بعض الأوراق الصغيرة مقابل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية ورفع العقوبات، لكنها لن تتخلى عن برنامجها النووي أو تصنيع الصواريخ.”