حملت زيارة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى دمشق أبعاداً دينية وسياسية لافتة، ولا سيما أنها الزيارة الأولى لأعلى مرجعية دينية إسلامية للعاصمة السورية منذ إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005، لتشكّل حدثاً مفصلياً في مسار العلاقات اللبنانية – السورية، خصوصاً في ظل التعقيدات السياسية التي تعيشها المنطقة، ولتفتح نقاشاً واسعاً حول مستقبل العلاقة بين لبنان وسوريا، وموقع الطائفة السنية اللبنانية في معادلة الانفتاح على دمشق.
وجاءت الزيارة لتؤكد موقع دار الفتوى كمرجعية دينية جامعة للطائفة السنية، حريصة على خيار الدولة، والتعايش، وضبط الخطاب الديني ضمن إطار الاعتدال والانفتاح. وشدّد المفتي دريان خلال لقائه الجانب السوري على ضرورة التعاون بين العلماء لنشر الفكر الوسطي، محذّراً من مخاطر التطرف والانقسام المذهبي.
وبهذا المعنى، قرأ مراقبون الخطوة كرسالة داخلية واضحة، الطائفة السنية اللبنانية جزء لا يتجزأ من الدولة الوطنية، ولا تحتكم إلى أجندات خارجية أو مشاريع انقسامية.
تاريخياً، كانت المرجعيات الدينية في لبنان أكثر من مجرد رموز روحية، بل كانت لاعبين أساسيين في السياسة الداخلية والخارجية.
لذلك، فإن زيارة المفتي دريان إلى دمشق تؤكد هذا الدور الاستراتيجي، إذ إنه عبر ثقله الديني يرسّخ فكرة أن الاستقرار اللبناني يمرّ عبر إعادة العلاقة مع الجوار السوري، حتى لو كانت هناك تحفّظات سياسية كبيرة.
كما أن هذه الخطوة تعزز من موقف دار الفتوى التي تبحث عن إعادة تموضعها كمرجعية قادرة على تحييد طائفتها من الانقسامات الحادّة التي خلّفتها الحرب السورية، وتقديم خطاب ديني يواكب السياسة الواقعية.
لا يمكن النظر إلى الزيارة بمعزل عن التحوّلات الإقليمية، حيث باتت سوريا تُعاد تدريجياً إلى الحاضنة العربية بعد سنوات من العزلة. الدعم العربي لسوريا والتقارب مع الدول الخليجية يشكّلان عامل ضغط على لبنان لتعديل مواقفه.
زيارة دريان تمثل استجابة ضمنية لهذا الواقع، وتعبيرا عن رغبة لبنانية، على الأقل من بعض المرجعيات، في الانخراط في هذا الاتجاه، مع محاولة حماية المصالح اللبنانية عبر بناء جسور مع دمشق.
هذه الخطوة، التي تفتح باباً واسعاً لفهم التحوّلات الجديدة، والتي قد تشكّل خارطة طريق لمرحلة ما بعد الأزمة السورية وتأثيراتها على لبنان.
الزيارة بتوقيتها ومندرجاتها وأبعادها، ستطرح سؤالاً كبيراً عن مدى قدرة تخطّيها الخلافات السياسية العميقة، خاصة مع استمرار الانقسامات داخل لبنان حول طبيعة العلاقة مع سوريا.
لا شك، هذه الخطوة ستواجه تحديات داخلية كبيرة في ظل المخاوف من أن تكون الزيارة جزءاً من لعبة إقليمية أو محاولة لإعادة سوريا إلى مركز النفوذ على حساب لبنان.
ففي الوقت الذي رحّبت فيه السلطات السورية بالزيارة باعتبارها مؤشراً على (عودة الأمور إلى نصابها)، فإنه في لبنان، غابت ردود الفعل الرسمية الواضحة، في ظل انقسام داخلي حول العلاقة مع سوريا. فقد التزمت معظم القوى السياسية الصمت، مع تسجيل ترحيب خجول من بعض الشخصيات، وتحفّظ آخرين خشية استثمار الزيارة لجهة توظيفها سياسياً في الداخل، بالرغم من أن الزيارة لم تكن خطوة حكومية رسمية، بل مبادرة دينية مستقلة، من دون توريط الدولة في التزامات سياسية مبكرة.
على المفتي دريان أن يوازن بين دوره الديني ومسؤولياته الوطنية، ويعمل على تحويل هذه الزيارة إلى جسر حقيقي للحوار وليس مجرد إشارة رمزية قد يساء تفسيرها.
إذا ما استثمرت بشكل صحيح، قد تصبح هذه الزيارة نقطة انطلاق لمرحلة جديدة من التعاون قد تساهم في تخفيف الأزمات التي تعصف بالبلدين، وتعيد ترتيب أولويات السياسات الداخلية على قاعدة المصالح المشتركة.