كتبت “الأخبار”: لم يبقَ في الاقتصاد ما يُتداول بغير الدولار إلا الإيرادات العامة، علماً أن بعضها مسعّر وفق سعر صرف الدولار المعتمد رسمياً (89500 ليرة مقابل الدولار). باستثناء ذلك، أصبحت الدولرة النقدية تمثّل الجزء الأكبر من التعاملات التجارية الجارية، وهو ما أفقد الليرة دورها كوحدة تبادل في الاقتصاد.
خطورة الدولرة أنها أفقدت لبنان السيادة المالية والنقدية بكل أدوات السيطرة المتصلة بكل أشكال التدخّل في السوق، سواء بهدف زيادة التنافسية المحلية أو للسيطرة على التضخّم… ستتراجع فعالية أدوات الحكومة، ولن يعود للسياسة النقدية قدرة على التحكّم بالكتل النقدية، وهذا ما يثير سؤالاً أساسياً: هل يمكن العودة عن الدولرة إلى استعمال الليرة؟
تدريجاً، أصبحت السوق كلّها تعتمد الدولار كوحدة تبادل بدلاً من الليرة. حتى إن رواتب العاملين في القطاع العام، ولأسباب ذات خلفية متصلة بالسياسة النقدية، أصبحت تدفع بالدولار النقدي. هذه القرارات نقلت الاقتصاد إلى مرحلة جديدة كلياً؛ الحديث هنا ليس عن الفرق بين الدولرة الجزئية والكلية، أو تغلغل الدولرة بشكل عمودي في الاقتصاد (عمق الانغماس في الدولرة)، بل هو عن انتشارها بشكل أفقي، أي تعدّد استخداماتها.
الواقع الجديد جعل الليرة أقل طلباً في السوق، وهو ما سمح للمصرف المركزي بسحب كتلة كبيرة من العملة المحلية من السوق. إذ انخفضت الكتلة النقدية في التداول من نحو 83 تريليون ليرة في شباط 2023 إلى 59.8 تريليون ليرة في نهاية نيسان 2024. هذا ما سهّل “التثبيت الوهمي” لسعر صرف الليرة مقابل الدولار على سعر 89500 ليرة وسطياً، وهو الأمر الذي يتغنّى به حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. فمن دون الغرق في الدولرة، لم يكن ممكناً سحب السيولة بالليرة.
غير أن هذا السلوك الذي يظهر علناً على شكل “استقرار نقدي” يأتي بثمن مرتفع وبمخاطر عالية. فالحديث عن اعتماد البلد على الدولار كعملة ميهمنة على الاقتصاد، يعني بشكل أو بآخر التخلّي عن السيادة النقدية في البلد، وهو ما يُترجم من خلال القدرة على تطبيق سياسات نقدية فعّالة في الاقتصاد من قبل صانعي السياسة النقدية المحليين.
إذاً، ما هي فرص الخروج من الدولرة التي تشبه خلايا “السرطان” في جسم الاقتصاد الوطني؟ الواقع أن الدولرة عملية لا يمكن عكسها بسهولة. فبحسب غيرهارد أشينغر، في دراسة بعنوان “مجلس العملة، الدولرة أم أسعار الصرف المرنة في الاقتصادات الناشئة؟ تأملات في الأرجنتين”، لا يمكن تراجع الدولرة إلا بكلفة عالية للغاية. وهذا الأمر يؤكده الباحثان أندرو بيرج وإدواردو بورنشتاين، في دراسة بعنوان “الدولرة الكاملة: الإيجابيات والسلبيات” التي نشرها صندوق النقد الدولي، إذ يشيران إلى أن السمة المميزة الرئيسية للدولرة أنها دائمة أو تكاد تكون كذلك، كما أن عكس اتجاه الدولرة، أو التخلّص منها، أصعب كثيراً من “الحلول النقدية الأخرى مثل مجلس النقد”.
الكلفة لا تكمن في صعوبة العودة إلى استعمال العملة الوطنية، بل في أنّ لها تأثيرات اقتصادية بعيدة المدى. أي تحوّل اقتصادي يراد إرساؤه، سيصبح عملية معقدة وصعبة وسط انعدام فعالية الأدوات التي يمكن أن تستخدمها الدولة لتحويل الاقتصاد نحو نموّ أكثر استدامة. وهذا الأمر يصبح أكثر تعقيداً وصعوبة في الحالة اللبنانية مع الإفلاس الجماعي للمصارف التي كانت تعدّ إحدى قنوات وصول المصرف المركزي إلى السوق لتطبيق استراتيجياته.