في خضمّ تصاعد التوتر بين روسيا وأوكرانيا، شكّلت المحادثة الهاتفية المطوّلة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين حدثًا لافتًا، أعاد تسليط الضوء على مسار الحرب ومستقبل العلاقات بين واشنطن وموسكو. فالاتصال، الذي استمر لنحو ساعتين، حمل رسائل سياسية واقتصادية وأمنية، في محاولة لإعادة فتح قنوات التواصل بين الجانبين وسط أزمة دولية معقّدة.
وفي حين بدا أن ترامب يسعى لتعزيز صورته كصانع للسلام، فإن المحادثات لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة، لكنها فتحت الباب أمام تساؤلات حول إمكانية التوصل إلى تفاهمات جديدة قد تغيّر مسار النزاع الأوكراني أو تعيد ترتيب موازين القوى الإقليمية والدولية.
وفي هذا السياق، يُطرح السؤال: ما هي انعكاسات هذا الاتصال على مسار الحرب في أوكرانيا؟ وهل يمكن أن يشكّل بداية لتحولات في موازين القوى الإقليمية والدولية؟
أستاذ العلوم السياسية في جامعة العلوم الإنسانية في موسكو، الدكتور نزار بوش، أشار عبر “المدى” إلى أنه “بعد الجولة الأولى من المحادثات الروسية – الأوكرانية في إسطنبول، والتي لم تُسفر عن وقف لإطلاق النار أو حتى هدنة، برز الموقف الروسي الواضح الذي يرفض أي توقف موقّت للعمليات القتالية. فروسيا ترى أن الهدنة القصيرة قد تُستغلّ من قبل أوكرانيا لإعادة تجميع قواتها وتجديد أسلحتها وإعادة تموضعها ميدانيًا، تمهيدًا لاستئناف القتال لاحقًا. لذلك، شدّدت موسكو على ضرورة استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها في عام 2022، ولكن في إطار يفضي إلى سلام دائم ومستدام، وليس إلى حلول موقّتة. ومع ذلك، حملت الجولة الأولى من المحادثات هذا العام في إسطنبول بعض الإشارات الإيجابية، إذ التقى الوفدان الروسي والأوكراني وجهاً لوجه، وتبادلا وجهات النظر بشكل صريح حول سبل وقف الحرب والوصول إلى تسوية سلمية. ورغم أن نتائج الجولة اقتصرت على اتفاق لتبادل الأسرى (1000 مقابل 1000)، إلا أن ذلك يُعدّ خطوة إيجابية في سياق المفاوضات المعقدة.”
واعتبر بوش أن “الطريق إلى اتفاق نهائي لا يزال مليئًا بالتعقيدات، خصوصًا في ظل استمرار الدعم العسكري والمالي الكبير الذي تتلقاه أوكرانيا من الولايات المتحدة وأوروبا. وهذا ما استدعى، بطبيعة الحال، تدخلاً مباشرًا من ترامب وبوتين، على اعتبار أن واشنطن تظل الطرف الأقدر على التأثير في مجريات هذا النزاع، نظرًا لدورها المحوري في دعم كييف. ويبدو أن ترامب يسعى من خلال هذا الدور إلى تحسين علاقاته مع روسيا، وإظهار نفسه كصانع سلام عالمي، خصوصًا أن أي وقف للحرب من شأنه أن ينعكس إيجابًا على صورته الداخلية ويعزز شعبيته، إذ يمكنه حينها الادعاء بأنه نجح في إنهاء نزاع مكلف وطويل الأمد.”
وذكّر بوش بأن الولايات المتحدة “جرّبت عبر إداراتها السابقة كافة الوسائل لاحتواء روسيا، بدءًا من العقوبات الاقتصادية وصولاً إلى الدعم العسكري لأوكرانيا، من دون أن تحقق أهدافها. فالعقوبات فشلت في شل الاقتصاد الروسي، بل إن موسكو تمكّنت من التكيف معها، بل وسجلت نموًا اقتصاديًا مفاجئًا في بعض القطاعات”.
وقال: “من هنا، يرى ترامب أن دوره في وقف الحرب سيكون ورقة رابحة، سواء في الداخل الأميركي أو على الساحة الدولية، حيث يقدّم نفسه على أنه القادر على تحقيق ما عجزت عنه الإدارات السابقة، عبر تسوية تنهي النزاع وتفتح الباب أمام ترتيبات جديدة تخدم مصالح واشنطن”.
ولفت بوش إلى أن المحادثة بين ترامب وبوتين تناولت العديد من النقاط، “وكان أبرزها، بحسب المصادر الروسية، ضرورة معالجة الأسباب الجوهرية التي دفعت روسيا إلى إطلاق عمليتها العسكرية في أوكرانيا. ويُعتقد أن بوتين شدد خلال حديثه مع ترامب على أن أوكرانيا يجب أن تلتزم بالحياد، وألا تنضم إلى حلف الناتو، كما يجب ألا تمتلك أسلحة نووية. كما طالب بضمان حقوق الناطقين باللغة الروسية وتمكينهم من الحفاظ على هويتهم الثقافية والانتماء القومي الروسي، وهو ما تعتبره موسكو أمرًا غير متاح حاليًا داخل أوكرانيا. وأشار بوتين إلى أن هناك حملة منظمة داخل أوكرانيا تستهدف الرموز الثقافية الروسية، من كتب ومؤلفات ومفكرين، إضافة إلى التضييق على رجال الدين الأرثوذكس الموالين لبطريركية موسكو. وقد تم تسجيل حالات لمداهمات من قبل قوات الأمن الأوكرانية لكنائس أرثوذكسية، ما يُظهر حجم الصراع الديني والثقافي في البلاد، رغم أن أوكرانيا تاريخيًا تتبع الكنيسة الأرثوذكسية”.
أما عن المبادرة الأوروبية والأوكرانية لإقرار هدنة موقّتة لمدة 30 يومًا، فقد رفضتها روسيا، بحسب بوش، “على اعتبار أن وقفًا قصيرًا لإطلاق النار لن يُفضي إلى سلام دائم، ولن يعالج الأسباب العميقة للنزاع. وترى موسكو أنها حاليًا في موقع قوة ميدانية، ما يمنحها أوراق ضغط إضافية على طاولة التفاوض. وبما أن من يملك زمام المبادرة على الأرض يملك الأفضلية في السياسة، فإن الكفّة اليوم – بحسب التحليل الروسي – تميل لصالحها. كما أن الوضع الاقتصادي الروسي لم ينهار كما توقّع الغرب، بل شهد نوعًا من التعافي والتأقلم مع العقوبات. وقد أصبح أداء الاقتصاد الروسي، بحسب بعض المؤشرات، أفضل من نظيره الأوروبي في بعض القطاعات، مما قلّل من تأثير العقوبات الغربية” .
وفي هذا السياق، لفت بوش إلى أن واشنطن “تدرك هذا الواقع جيدًا، وتواجه تحديًا حقيقيًا، خصوصًا مع تزايد الضغوط الداخلية والتذمر من كلفة دعم أوكرانيا. فقد بات من الواضح أن واشنطن بدأت تملّ من المطالب المستمرة لزيلينسكي، سواء من حيث المال أو السلاح، في ظل الاتهامات بانتشار الفساد وسوء إدارة الموارد. ويُقال إن الكثير من الأموال تُهدر في الجبهات أو تختفي في شبكات الفساد المحيطة بالحكم”.
وقال بوش: “بحسب التصريحات الأميركية والروسية، يُنظر إلى الاتصال بين ترامب وبوتين على أنه إيجابي للطرفين. من جهة، يُعدّ رسالة للداخل الأميركي بأن الولايات المتحدة لا تزال تسعى إلى السلام، ومن جهة أخرى، يعكس رغبة ترامب في تحسين العلاقات مع موسكو، إذ يرى أن تحسين هذه العلاقات سينعكس إيجابًا على الأمن العالمي والاقتصاد الأميركي، وهو هدف يسعى إليه بجدية” .
لكن هذا التقارب الأميركي– الروسي، لفت بوش، “لا يلقى ترحيبًا من بعض حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، لا سيما ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، الذين يعتبرون أن أي تقارب بين واشنطن وموسكو لا يخدم مصالح “الناتو” ولا مصالح أوروبا، بل يضعف الموقف الغربي الموحد تجاه روسيا. ومع ذلك، فإن عودة التواصل وبناء حد أدنى من الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا يمكن أن يساهم في تعزيز فرص السلام، ليس فقط في أوكرانيا، بل على مستوى العالم. فإذا تمكّنت واشنطن من الضغط على زيلينسكي، وكذلك على الأوروبيين، من أجل الموافقة على شروط السلام، فقد نشهد انفراجة في هذا النزاع المستمر. وقد أحرزت روسيا مكاسب ميدانية، خاصة في منطقة دونباس، بل وتمكّنت من السيطرة على أجزاء من مقاطعة خاركوف، وهي مناطق تقع خارج الإقليم الذي تطالب به تقليديًا. لذلك، قد تكون موسكو مستعدّة لتقديم تنازلات والانسحاب من بعض المناطق التي لا تنتمي لدونباس، في حال تم التوصل إلى اتفاق. أما المطالبة بانسحابها من المناطق الأربع التي ضمتها رسميًا، فسيكون أمرًا بالغ الصعوبة، وقد يشكل عقبة كبيرة أمام تحقيق السلام”.
وختم بوش قائلاً: “في هذا السياق، أشار أحد مساعدي الرئيس الأميركي إلى أن واشنطن قد تتوقف عن الانخراط في العملية السياسية إذا لم تُفضِ المفاوضات إلى نتائج ملموسة. وفي حال انسحبت الولايات المتحدة من هذه المحادثات، فإن النزاع قد يدخل في نفق مسدود، ما يعني استمرار الحرب، وربما توسّع روسيا في السيطرة على مزيد من الأراضي، وهو ما لن يصب في مصلحة أوكرانيا ولا أوروبا”.