يعيش الملف الأوكراني– الروسي واحدة من أكثر مراحله حساسية وتعقيدًا منذ اندلاع الحرب في شباط 2022، مع تداخل التطورات الميدانية المتسارعة مع التحركات السياسية المتجددة. ففي الوقت الذي يواصل فيه الجيش الروسي تحقيق مكاسب ميدانية ملحوظة على طول الجبهة، خاصة في مناطق دونباس وخاركوف وسومي، تتزايد مؤشرات تراجع القدرات القتالية الأوكرانية، سواء من حيث العتاد أو العنصر البشري، رغم استمرار تدفق الدعم الغربي.
سياسيًا، فتحت المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين باب التساؤلات مجددًا حول إمكان التوجه نحو تسوية سياسية. تناول الاتصال ملف وقف إطلاق النار وشروط موسكو للتفاوض، ما يعكس محاولة أميركية، ولو أولية، لاستطلاع إمكانات الحل، خاصة في ظل قرار واشنطن تعليق بعض شحنات الأسلحة المتطورة إلى أوكرانيا.
وفي هذا السياق، أكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة العلوم الإنسانية بموسكو، الدكتور نزار بوش لـ”المدى”، أن التواصل بين موسكو وواشنطن مستمر، وإن لم يكن معلنًا دائمًا. وأضاف: “من المعروف أن ترامب يسعى للعب دور بطل السلام، وهو ما يتوافق مع نزعة شخصية نرجسية ورغبته المستمرة في البقاء تحت الأضواء. لذلك، لن تمنح روسيا هذا اللقب بسهولة أو من دون مقابل.
وطمأن بوش إلى أن المبادرة على الجبهات باتت بيد القوات الروسية، بعدما حررت منطقة كورسك بالكامل، التي كان الجيش الأوكراني قد سيطر عليها لأشهر عدّة. وأوضح أن التقدم العسكري الروسي يتواصل يوميًا، في ظل إنهاك واضح للجيش الأوكراني، رغم استمرار الدعم العسكري والمالي الغربي له.
وأعرب بوش عن اعتقاده بأن الغرب لا يزال يساند زيلينسكي ونظامه بكافة الأشكال، رغم التصريحات الأميركية الأخيرة التي تتحدث عن تقليص الدعم. وأوضح أن هذه التصريحات تندرج في إطار الإعلام والدعاية، وربما الهدف منها خداع روسيا. وأضاف: قد تمارس واشنطن بعض الضغوط في هذا السياق، لكنها ضغوط إعلامية أكثر منها واقعية. وربما تسعى إلى تقليص إرسال الأسلحة لأوكرانيا من أجل توجيهها إلى ساحات أخرى، كإسرائيل على سبيل المثال.
وذكر بوش أن روسيا لم ترفض أي مبادرة للتفاوض أو العودة إلى طاولة المفاوضات، لكن ذلك لن يكون على حساب أمنها القومي أو أهداف العملية العسكرية. وأوضح أن الأهداف التي لم تتحقق حتى الآن تشمل نزع سلاح أوكرانيا، وتفكيك الفصائل القومية المتطرفة داخلها، وضمان حياد أوكرانيا بعدم انضمامها إلى حلف الناتو، إضافة إلى الاعتراف بالأمر الواقع على الأرض، خصوصًا في المناطق الأربع التي حررتها موسكو من سيطرة كييف.
وأشار إلى أن روسيا لن تتنازل عن مطالبها وأهدافها المعلنة منذ بداية العملية، بما في ذلك الضمانات الأمنية التي قدمتها للغرب في 2021 و2022. وربما نشهد جولة ثالثة من المفاوضات، لكن حتى الآن لا يوجد اتفاق واضح، رغم استعداد موسكو للذهاب إلى إسطنبول واستئناف الحوار مع الجانب الأوكراني.
وأكد بوش أن هناك أطرافًا تسعى لإعاقة هذه المفاوضات والتأثير على القرار الأوكراني بشكل مباشر، من بينها بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وهي دول تضغط، في رأيه، على كييف، لرفض أي تسوية سياسية.
ورأى بوش أن جميع السيناريوهات تبقى ممكنة. وقال: “في حال تحقق سيناريو الحسم العسكري، فلن يكون النصر من نصيب أوكرانيا، بل سيكون لصالح روسيا، وهذا ما تؤكده التطورات الميدانية والتقدم الروسي المستمر على طول الجبهة، إضافة إلى قوة الجيش الروسي رغم كل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا”.
أما السيناريو الثاني، فيتعلق باحتمال توسع الحرب، خاصة إذا أقدمت دول مثل بريطانيا، ألمانيا، فرنسا أو غيرها من الدول الأوروبية على إرسال قوات أو جنود إلى أوكرانيا. في هذه الحالة، ستكون تلك القوات هدفًا مباشرًا للجيش الروسي، وقد تُعد “لقمة سائغة”، كما تصفها وزارة الدفاع الروسية، التي تؤكد – إلى جانب الرئاسة ووزارة الخارجية – أن روسيا لن تتردد في استهداف أي دعم عسكري أجنبي، سواء بالسلاح أو بالقوات. وهذا ما يحدث فعلاً، حيث تم القضاء على عدد كبير من المرتزقة الأوروبيين الذين شاركوا إلى جانب الجيش الأوكراني في الجبهات.
أما السيناريو الثالث، فيتعلق بالتوصل إلى اتفاق روسي-أميركي، إذا تمكن ترامب من تجاوز الضغوط الأوروبية ومارس نفوذه على زيلينسكي. حينها قد تُطوى صفحة الحرب خلال عام 2025، ولكن وفقًا للشروط الروسية. فالتخلي من جانب روسيا عن الأراضي التي حرّرتها سيُعدّ تنازلاً وخسارة سياسية وميدانية، خصوصًا بعد حربٍ استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، وبالتالي لن تقبل موسكو التراجع عن مكاسبها من دون ثمن واضح.
وأضاف بوش: من وجهة نظري، هناك تعنّت واضح من الغرب يقابله دعم غير محدود لأوكرانيا، في الوقت الذي تؤكد فيه روسيا أنها لن تتنازل عن أي شبر من الأراضي التي حررتها.
وفي حال دخول قوات غربية بشكل مباشر إلى أوكرانيا، فقد تتوسع الحرب فعليًا لتتحوّل حربًا عالمية ثالثة. لكنني أستبعد هذا السيناريو في الوقت الراهن، لأن الدول الغربية تدرك تمامًا حجم القوة الروسية وقدرتها على تدمير أوروبا خلال ساعات.
هذا الوعي لدى القادة الغربيين هو ما يجعلهم يحجمون عن إرسال جيوشهم مباشرة، ويكتفون باستخدام المرتزقة وتقديم الدعم العسكري والمالي لكييف. فالغرب، في الواقع، يخوض الحرب ضد روسيا بأيدي الأوكرانيين، ولا يبدو أنه يهتم كثيرًا بعدد القتلى من الطرفين، طالما أن الجنود الأوروبيين أو الأميركيين لا يُقتلون.
وفي ظل هذا المشهد المتداخل بين التقدم العسكري والاتصالات السياسية، يبدو أن عام 2025 قد يحمل مفاجآت حاسمة. بالنسبة لبوش، هناك احتمالان: إما فرض أمر واقع روسي ميداني، أو فتح نافذة تفاوضية جديدة تحت رعاية أميركية مباشرة.
وجزم بوش بأنه رغم كل الدعم الغربي والأميركي، سواء بالمال أو بالسلاح، لم يتمكن الجيش الأوكراني من تحقيق أي تقدّم يُذكر على الجبهة. بل على العكس، نلاحظ كيف يواصل الجيش الروسي تدمير الأسلحة الغربية المتطورة على امتداد خطوط المواجهة، ويتقدم بوتيرة متسارعة، وفقًا لتصريحات وزارة الدفاع الروسية التي تؤكد تحرير العديد من البلدات في العمق الأوكراني.
وفي منطقة دونباس تحديدًا، يواصل الجيش الروسي التقدم بعمق أكبر، ويبدو أن تحريرها الكامل بات مسألة وقت فقط. لكن العمليات الروسية لم تقتصر على دونباس، إذ شهدنا أيضًا تقدمًا واضحًا في مدينة سومي، حيث تم تحرير أجزاء منها، رغم أنها ليست من ضمن الأهداف الروسية الأساسية. ويبدو أن الهدف من هذا التوسع هو إنشاء منطقة عازلة تبعد القوات الأوكرانية عن الحدود الروسية، وتمنع استهداف المدن الروسية.
وكذلك في خاركوف، حيث تشهد محيطها عمليات عسكرية روسية لتحرير بلدات ومواقع، بهدف ضرب عمق القوات الأوكرانية وخطوط الإمداد، وبالتالي تقليل قدرتها على مهاجمة الأراضي الروسية.
وعليه، تابع بوش، تميل الكفة اليوم بوضوح لصالح الجيش الروسي على مختلف الجبهات. في المقابل، يعيش الجيش الأوكراني حالة تدهور متسارعة، ويعاني من نقص كبير في العتاد والعناصر، بعدما خسر – وفق التقديرات – مئات الآلاف من جنوده منذ بداية العملية العسكرية الروسية وحتى الآن.