كما يلجأ الانسان في أوقات الشدائد بشكل عفوي الى ربّه وخالقه، تتوجّه نداءات المواطنين وآمالهم نحو المسؤولين السياسيين لتحقيق الوحدة الوطنية خلال أزمنة الحروب. ولأن الحروب لا تحدث فجأةً ومن دون أسباب، كذلك تأتي المصائب للبشر بمعظم الاوقات نتيجة لابتعاد الانسان عن التعاليم الصحيحة التي وُضعت للحفاظ عليه من الرذيلة والخطيئة والانانية، وإن أتت صدفةً، فيستقبلها بضمير مرتاح وبقدرة قديرة.
المقاربة هذه ليست محاولة منّي لتناول القضايا الوطنية من زاوية الوجدانية والتفسيرات الدينية، ولكنها للقول إن القيم الانسانية تتشابه في كل الازمان والاماكن، وبالرغم من الفروقات العرقية والقومية والثقافية. فالانسان عند المصائب يرفع يده طالباً العون من حاميه. وبالانطلاق من هذه القاعدة العامة الغرائزية التي لا استثناء فيها، تُفهم صرخة المواطن اللبناني المُعذّب بإتجاه مرجعياته السياسية وقادته، والسلطات الرسمية، طلباً للإنقاذ من الوضع المؤلم وغير المُطاق الذي وصل إليه، قبل الحرب ومع الحرب، قبل النزوح ومع النزوح، قبل انكشاف الاوهام التي أطلقها محور المُمانعة، ومع سقوطها. ينظر المواطن اللبناني نحو قادته مطالباً إياهم بالوحدة الوطنية علّها باعتقاده تنقذه فتؤتي له بالخلاص. يُطالب بها لانه مُتعلّق بالسلام، لانه يعتبر الوحدة بين أطراف الوطن، هي الدواء والعلاج والنافذة الوحيدة التي تسمح له للخروج من غرفة التعذيب.
طبعاً، الوحدة الوطنية مطلوبة، ولكن لهذه الوحدة شروطها، فهي ليست وجهة نظر، ولا وحدة مواقف، ولا وحدة ثقافية ولا وحدة صورية، وليست وحدة سطحية، وحتماً ليس المطلوب وحدة إلغائية، فالانسانية متنوّعة، ولبنان بشكل خاص بتركيبته متنوّع ومركّب من ألوان ثقافية مختلفة، فالوحدة المطلوبة والمُفيدة والخلاصية، هي وحدة حول احترام الشراكة والدستور، حول الدفاع عن لبنان ضد جميع التهديدات، أكانت عسكرية أو ثقافية، وأي استثناء لاي فريق داخلي بالدخول في مشاريع ايديولوجية توسّعية غريبة عن الوحدة اللبنانية، يُعدّ مشروع انقسام.
الوحدة الوطنية المطلوبة هي وحدة، ليس فقط عند التعرّض للقصف وللغارات وللتدمير والاجتياح والنزوح، بل وحدة تمنع الانقسامات الداخلية بالتحصّن ضد مشاريع تغيير الهوية وتغليب العدديّة، ووحدة تحييد لبنان عن حروب النفوذ الاقليمي. الوحدة الوطنية تتحقّق بالتوقّف عن النكران للنوايا الخبيثة، ومحاولات تجهيل الاعمال المُخلّة بالشراكة، والخداع التدرّجي الهادف للتغيير المدروس، والوحدة لا تتأمن باستمرار فريق بارتكاب الخطايا بحق الوحدة، واستمرار الطرف الآخر بالمسامحة والتعالي على الجراح تحت عنوان الوحدة.
الوحدة الوطنية الحقيقية هي الوحدة بالاتجاهين، وهي وحدة قرار ووحدة مصير، وحدة دفاع عن الدستور ووحدة الالتزام به، وحدة احترام المساواة والتوازنات ووحدة الدفاع عن المصلحة العامة والحفاظ على الحياد الحافظ للوطن، وحدة في الاستشهاد ووحدة على الضريح. الوحدة الوطنية مطلوبة فوراً والآن اكثر من أي وقت آخر، فهل من خرقها وحرقها ودمّرها، وبلّ أوراقها وقدّمها مشروباً لصالح مرجعيته الايديولوجية، هو جاهز لها؟؟؟
كي لا تبقى الدعوة للوحدة الوطنية مجرّد كلام، فعلى الداعي اليها الآن العودة لها فعلاً.