في ظلّ التحوّلات السياسية المتسارعة والتوترات المتزايدة في العلاقات الدولية، يبرز كل من الرئيسين الأميركي والروسي، دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، كأهم اللاعبين في الساحة العالمية. منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، شهدنا تغييرات واضحة في السياسة الأميركية تجاه روسيا، والتي تراوحت بين استراتيجيات دبلوماسية مباشرة ورسائل مؤثرة عبر ملفات متعددة، تشمل الأمن الدولي والاقتصاد والطاقة. في المقابل، أظهر بوتين براغماتية عالية في تعاطيه مع التحديات العالمية، متمسكًا بمصالح روسيا الاستراتيجية في العديد من القضايا.
هذا الانسجام بين ترامب وبوتين لم يكن مجرّد صدفة أو تحوّلًا عابرًا، بل يمثّل مرحلة جديدة في إعادة تشكيل العلاقات بين القوى الكبرى. هو عهد من التنسيق غير التقليدي بين القوتين العظميين، يطرح العديد من التساؤلات حول آفاق التعاون المستقبلي وتبعاته على الساحة الدولية. وفي هذا السياق، يبرز السؤال: هل نشهد فعلاً تزاوجًا في مصالحهما المشتركة؟ وهل يمكن لهذا التنسيق أن يقود إلى حلول أكثر استقرارًا في الملفات الدولية الشائكة؟
الباحث في الشؤون الاوروبية أكثم سليمان والمقيم في المانيا، انطلق من اتصال ترامب – بوتين المطوّل منذ فترة، ليؤكد أنّ أكبر وأهمّ وأقوى بلدين في العالم يتناقشان حول قضايا مشتركة. وقال: “هذه هي النقطة الأساسية؛ حتى وإن كان الحديث محصورًا في موضوع الطاقة والبحر الأسود فقط، فهذا يعني أن عهدًا جديدًا من التعاون قد بدأ، هو عهد حياكة الحلول المشتركة، عهد انسجام في التعامل مع القضايا الدولية. إذا كان البحر الأسود هو الموضوع اليوم، قد يكون غدًا موضوعًا آخر، وإذا كانت محطّات الطاقة هي النقاش الحالي، فقد تصبح الجبهات الأخرى محورًا في المستقبل. والأهم من التفاصيل هو المنطق الكامن وراء هذه المحادثات، وهو منطق انقلابي على الحقبة السابقة التي شهدت صدامًا بين روسيا والغرب الجماعي. المنطق الجديد يقول: “لا يمكن حلّ مشاكل العالم إلا بتعاوننا كقوتين عظيمتين”. ولذلك، بالتأكيد هناك قضايا أخرى، قد يتمّ تناولها بشكل مباشر أو غير مباشر، مثلما تمّ تناول المثال الأوكراني ومحطات الطاقة. هذه هي التفاصيل الصغيرة التي تعكس تحوّلًا كبيرًا”.
بوتين يتصرّف كسياسي تقليدي، برأي سليمان، “فهو يدخل إلى غرفة المفاوضات ويجلس إلى طاولة الحوار بمطالبات قصوى يعبّر عنها قبل الدخول، ثم كما يُقال: لا تؤكل الأمور بنفس درجة الحرارة التي تطهى بها. فالسلوك الروسي في الدبلوماسية والمفاوضات معروف، وهو رفع السقف، ثم بعد ذلك يظهر أي شيء كأنه تنازل، بينما في الحقيقة تكون خطوطه الحمر في مكان آخر لم يتم الاقتراب منه، وهذه هي النقطة الأهم بالنسبة للجانب الروسي.
أما حسابات ترامب، فهي ليست حسابات بسيطة، وفق سليمان، “إذ يدرك تمامًا أن الحرب الأوكرانية كانت مؤامرة من الدولة العميقة في الولايات المتحدة ومن النخب التقليدية للغرب الجماعي، التي كانت تسعى إلى الصراع مع روسيا عبر أوكرانيا، وترامب كان معاديًا لهذا التوجه، ليس لأنه حمامة سلام”، بل لأنه يعتقد أن هذا الصراع لا جدوى منه. وفعلاً، أثبت الروس من خلال صمودهم العسكري على مدار ثلاث سنوات في مواجهة أقسى العقوبات في تاريخ العالم أن من الصعب هزيمتهم. وبالتالي، ترامب، باعتباره رجل الصفقات والسياسة الواقعية، يتعامل مع الواقع. إذا كانت الهزيمة غير ممكنة في روسيا، فلماذا لا نتعاون في ما يمكن التعاون به ونقف عند هذا الحدّ”؟
وتابع: “هذه هي النقطة الأساسية التي تحرك الرئيس الأميركي، خاصة أنه يحمل بعض الأفكار الاقتصادية المتعلقة بترتيب شؤون العالم. هو متمرد على النخب القديمة في واشنطن وعلى سياسات العولمة العالمية. كما أنه يرفض الخطط التي كانت قائمة في عهد بايدن وأوباما، مفضلًا رؤية جديدة لهذا العالم. هذه الرؤية تتمحور حول الصفقات ومراعاة مراكز القوى، مع التركيز على الفوائد الاقتصادية المباشرة التي يراها أفضل بكثير من التكتيكات والاستراتيجيات التي لا يعرف أحد مآلها. ترامب ألمح إلى أمر خطير، فقد قالها علنًا، ما كان البعض يعتقده في السنوات الماضية بصوت خافت، وهو أن أزمة أوكرانيا كانت تهدد بتفجير حرب عالمية. ترامب لا يريد الدخول في حرب عالمية، ولا أحد يريد ذلك، لكنه هو الذي لا يخاطر بمثل هذه الأمور، بينما خاطر بايدن في هذا الاتجاه”.
وأكد سليمان أن “الأزمة الأوكرانية لم تكن يومًا مجرّد أزمة بين أوكرانيا وروسيا لتنتهي على هذا النحو. هي في الواقع أزمة بين الغرب الجماعي من جهة والقوى الصاعدة، روسيا الاتحادية والصين من جهة أخرى. لذلك، إنّ إنهاء هذه الحرب بالطريقة التي تبدو الآن يتعلق بعلاقة الشرق بالغرب، وليس فقط بين أوكرانيا وروسيا، أو بين زيلينسكي وبوتين”.
واعتبر سليمان أنّ التكتم على نتائج محادثات الرياض “ليس بسبب ملفات غامضة، بل لأن هناك مجموعة معارضة للمحادثات، مثل المجتمع الصناعي العسكري الأميركي والدولة العميقة. هذه المجموعة تسعى لإفشال المفاوضات وخلق توترات جديدة، ويتعاون معها زيلينسكي. المحادثات بين بوتين وترامب صعبة لأنها تتجاوز الصراع المباشر بين أميركا وروسيا لتشمل تدخلات من أوروبا التي تمثل الرأي الأميركي القديم”.
أوروبا، خاصة الدول الكبرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تسعى لوضع العصي في عجلة التحركات الدولية، خصوصًا في ما يتعلق بالصراع الأوكراني، وفق سليمان، “رغم أن بعض الدول الأوروبية، مثل هنغاريا، تتبنى مواقف مختلفة، وتبدو منسجمة مع توجيهات الإدارة الأميركية الحالية رغم اختلافها مع السياسات الحالية. هذا الموقف يعكس تناقضًا داخليًا، حيث تدعم أوروبا أوكرانيا بالسلاح والمال، وفي نفس الوقت تعترف بحاجتها الأمنية للولايات المتحدة، ولا تجد توافقًا مع سياستها خاصة في الملف الأوكراني. هذا يعكس الوضع الأوروبي الحائر والمتردد في ظل غياب الثقة بين كثير من القادة الأوروبيين والإدارة الأميركية الحالية”.
ولفت سليمان إلى غياب سياسة أميركية متكاملة وواضحة تجاه الشرق الأوسط حاليًا، “بل هي جزء من سياسات عامة تواجه غموضًا في قضايا عدة مثل الموقف من إسرائيل، غزة، والملف النووي الإيراني. فالأفكار الأميركية بشأن هذه القضايا غير واضحة، سواء كان الهدف مواجهة أو التوصل إلى اتفاق. في هذا السياق، يسعى ترامب لإبرام صفقات في المنطقة، لكن مفهوم الصفقات في الشرق الأوسط يختلف عن المفهوم الأميركي، مما يجعل المنطقة واحدة من أصعب التحديات في فترة حكمه. كما أن مواقف الحلفاء مثل مصر والأردن تُظهر الفجوة بين السياسة الأميركية وواقع المنطقة. وفي هذا الإطار، يصبح التعاون بين روسيا وأميركا أمرًا مهمًا. فالتعاون الروسي-الأميركي، كما حدث في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، يمكن أن يكون حاسمًا لفهم قضايا المنطقة وحلّها”.