نقلت «يديعوت أحرونوت» عن جنرال إسرائيلي رفيع، أن حزب الله يحتاج إلى نحو نصف ساعة لاستهداف الجنود الإسرائيليين بعد تحديد أماكنهم، ولهذا ترجمة عملياتية فيها: ترصد مجموعة ميدانية هدفاً ما، تخابر آمريها الذين يبلغون القيادة العسكرية بتفاصيل الهدف. وعندها تختار غرفة العمليات الوحدة الهجومية الأقرب أو الأقدر (صواريخ، قناصة، مُسيّرات انقضاضية أو غيرها)، ويُطلب منها تنفيذ العملية. كل ذلك خلال أقل من نصف ساعة فقط بحسب الاخبار.
وبالتالي فإن اتصال وحدات الحزب، بعضها ببعض، وآليات اتخاذ القرار تكاد تكون من الأسرع في التشكيلات العسكرية التقليدية. ومع كل ما لذلك من أهمية عسكرية، فقد سبق لجيوش كبرى في العالم أن خسرت فرصاً انقضاضية ثمينة لأن آليات اتخاذ القرارات تطلّبت وقتاً طويلاً، علماً أن الحزب قادر مستقبلاً على ربط وحدات الرصد بوحدات هجومية معينة في حال أراد تقليص المهلة الزمنية بين الرصد والاستهداف. ويُذكر هنا أن إسقاط منطاد المراقبة التكنولوجي كان متاحاً منذ لحظة إطلاقه، لكنّ أمر إسقاطه انتظر كل هذه الأسابيع لضمان سقوطه في أرض لبنانية بحيث لا يمكن لفرق التدخل السريع الإسرائيلية الوصول إليه، بموازاة تحصين قدرته على إصابة غرفة العمليات الخاصة بالمنطاد بما يضمن عجز الإسرائيليين عن إفراغه من المعلومات المخزّنة فيه.
في حرب تموز عام 2006، نجح الحزب مرة واحدة فقط في تبديل تكتيكاته العسكرية جنوب الليطاني، فيما قدّم جنرالات الحزب استعراضاً حقيقياً كاملاً أمام الجنرالات الإسرائيليين ونظرائهم الأميركيين والألمان والبريطانيين والفرنسيين (وحتى الروس والإيرانيين وكل من يتابع حرب الجنوب) حين بدّلوا في سبعة أشهر سبعة تكتيكات ميدانية، أو ما يصفه البعض بالاستراتيجيات العسكرية، مع كل ما يستوجبه ذلك من تغييرات لوجستية تشمل الضباط والعناصر والتكنولوجيا والأسلحة. وإذا كان الإسرائيليّ يعتقد في 7 أكتوبر أن مشكلته في الجنوب اللبناني هي انتشار قوة الرضوان جنوب الليطاني مثلاً، فقد أثبت له الحزب خلال الأشهر السبعة الماضية أن هذا مجرد تفصيل في مشهد أكثر تعقيداً بكثير. فقد نام جنرالات العدو على «قوة الرضوان» واستفاقوا على أمر ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وسابع، حتى باتوا يقولون اليوم إن مشكلتهم مع «الرضوان» أصغر من غيرها بعدما ظنوا لسنوات أنها مشكلتهم الوحيدة جنوب الليطاني. وهو ما يفسر تراجع الكلام الإسرائيلي عن طلب سحب قوة الرضوان كشرط أساسي لأي حل مستقبلي.
في ردّه على دعوة وزير المال الإسرائيلي إلى احتلال لبنان، سأل وزير الحرب الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان أي قوات يمكن أن تفعل ذلك: جنود الاحتياط الذين مضى على وجودهم في الخدمة لأكثر من سبعة أشهر، أو الجنود النظاميون الذين لم يزوروا منازلهم منذ بداية الحرب؟ في وقت يعاني الجيش الإسرائيلي ما يعانيه على جبهتين أساسيتين، يعلم كل من يتابع حزب الله عن قرب، وخصوصاً أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والعالمية، أن إسرائيل تستنفر قواتها منذ أكثر من مئتي يوم دون انقطاع واحد، فيما الحزب لم يستنفر قواته في المقابل ولو ليوم واحد، وهو لا يزال يعمل وفق مبدأ «إسناد» لا «حرب»، يحرك فرقة قتالية لبضعة أسابيع ثم يريحها لتحل أخرى مكانها، ثم ثالثة ورابعة دون انقطاع. تكفي الإشارة هنا إلى ما يعرفه كثيرون بأن بعض من استشهدوا كانوا قبل ساعات قليلة في منازلهم أو مع أصدقائهم.
كشف العدو خلال الأسابيع الأولى للحرب، كل ما طوّره من تكنولوجيا رصد واستهداف خلال العقدين الماضيين، لكنّ الحزب ضبط نفسه ولم يكشف عن شيء مما طوّره، مبتعداً عن الشعبوية ومتطلباتها. وهو حين يقصف العدو بصاروخ بركان أو الصواريخ المزوّدة بكاميرات أو الصواريخ الانحنائية أو الدقيقة أو يسقط مُسيّرة أو يطلق أخرى، فإنه يستخدم ما تعرف إسرائيل بوجوده وما سبق له أن استعرضه خلال مناورات سابقة أمام الكاميرات. وهو حتى على هذا المستوى، لم يستخدم أكثر من عشرين في المئة مما تعرف إسرائيل بوجوده، محتفظاً لنفسه بأفضلية استخدام الأسلحة النوعية الأخرى التي لا تعرف إسرائيل بوجودها. وعلى هذا المستوى الخاص بالتوقيت والفعل وردود الفعل، يمكن القول إن حزب الله تكبّد خسائر كان في وسعه تجنبها، تماماً كما كان بإمكانه توجيه ضربات نوعية أكثر إيلاماً لإسرائيل لكن تكتيكه الأساسي كان عدم الاستدراج إلى الكشف عما لا يريد كشفه إلا وفق توقيته هو، وهي استراتيجية تثبت نجاعتها اليوم حيث يلعب الوقت لمصلحة الحزب الذي خفّض خسائره البشرية بعد إيجاد الحلول الملائمة لآلة الحرب الإسرائيلية، وطوّر وسائله الهجومية لتجاوز القبب الإسرائيلية المختلفة.
في العملية الأخيرة التي استهدفت غرب طبريا، والتي تبعد 32.5 كلم عن الحدود اللبنانية، أسقطت المقاومة نظرية شمال وجنوب الليطاني، إذ أكّد الحزب أن توغله في العمق الإسرائيلي لا حدود له، وهو طوّر مُسيّراته بما يضمن تجاوزها لكل وسائل الدفاع الجوي والبحري الإسرائيلييْن، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض المُسيّرات البحرية المتطورة تأخذ أشكالاً مختلفة مثل الأسماك وغيرها، ما يسع تجهيزاته أن تبقيها أياماً في محيط منصات الغاز سواء في كاريش أو غيرها. واللافت هنا، وفق الأرقام الإسرائيلية، أن وسائل العدو الدفاعية كانت تسقط ثلاث مُسيّرات من كل ثلاث يطلقها الحزب أول شهرين، ثم باتت تسقط اثنتين من ثلاث بعد إدخال مُسيّرات جديدة للالتفاف على وسائل الدفاع الإسرائيلية، فيما هي تسقط مُسيّرة واحدة من كل ثلاث يطلقها الحزب في الشهرين الماضيين. وتظهر هذه المُسيّرات يوماً تلو الآخر قدرتها على إصابة أهدافها بدقة. ويكفي في هذا السياق وضع كل متابع لنفسه مكان الجنرالات الإسرائيليين الذين لا تستوقفهم المُسيّرات القليلة التي يطلقها الحزب اليوم إنما يتخيلون أن يطلق الحزب في لحظة واحدة ألف مُسيّرة تعجز وسائل الدفاع الإسرائيلية عن إسقاط أكثر من ثلثها فقط، لتصيب أكثر من ستمئة منها أهدافها بدقة.
أدار نصرالله معركة سياسية خارج الاعلام لضبط عمليات قوى المحاور لحصر الإستهداف بالعدو ومصالحه دون التعرض لأي دولة عربية
ثمة ثغرات دبلوماسية حرص الحزب على معالجتها دون أن تكلفه شيئاً في المعركة الكبيرة، مظهراً لمن يناصبه العداء من دون مبرر أنه أكثر حكمة وحرصاً على استقرار المنطقة مما يعتقدون بكثير، وهو إن لم يكسب هؤلاء إلى جانبه بسبب ارتباطاتهم المعروفة فإنه حيّدهم أو أحرجهم. أما على المستوى العسكري فقد أثبت جهوزية كاملة تزداد جديتها يوماً بعد آخر بما يضمن عدم تدحرج الأمور نحو الحرب الشاملة. وهو إذ كان يقدر في 7 أكتوبر أن تستفيد إسرائيل من الزخم الداخلي والدولي لتصفية حساباتها معه، فهو اليوم أكثر اطمئناناً إلى أن اسرائيل مردوعة، وتقدّر جيداً ما ينتظرها في لبنان ولن تتجرأ على توسيع نطاق المواجهة، ولا شك في هذا السياق أن جنرالاتها حين يجرون حساباتهم يأخذون في الاعتبار المعطيات الميدانية لا أحلام بعض السياسيين والمحللين اللبنانيين وأمنياتهم.
وخلافاً للسائد، يقول أحد قادة حزب الله: «للجنون حدود في إسرائيل؛ هم يعرفون أن مئة ألف نازح أفضل بما لا يقاس من مليون نازح، وجنود يتساقطون بالمفرّق وفق الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة في عدم الإعلان عن القتلى والمصابين أفضل بما لا يقاس من إحراق ثكنات بكاملها كما أظهرت قدرات الحزب الصاروخية، وإبقاء الأمور في نطاق الإسناد أفضل بما لا يقاس من الحرب».