رندلى جبور- خاص “المدى”
قليلون هم من يجمعون في شخصهم المقاومة الفكرية والمقاومة الجسدية في آن. ومن هؤلاء أنيس النقاش.
قد تتفق مع أفكاره وقد تختلف، ولكن لا يمكنك إلا أن تقدّر كمّ الثقافة المزروع في عقله، والقدرة على التحليل والإقناع، والتاريخ الحافل بالمشاركة بالأحداث الكبرى.
فأنيس النقاش الذي ربما يعرفه ناس هذا العصر بحلّته كمثقف ومحلل سياسي ومنسق لشبكة أمان للدراسات والبحوث الاستراتيجية، لا يعرفون أن النقاش هذا هو نفسه المناضل اللبناني العربي الذي دافع بقوة عن قضايا كبرى في عالمنا كالقضية الفلسطينية، وأنه انتسب يوماً إلى حركة فتح وتسلّم عدة مناصب فيها وأسّس خلية المقاصد وانتظم في المجموعات الأولى التي أطلقت الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية وعنها قال:”عشنا معمودية نار حقيقية. ننقل صواريخنا على البغال، نطلقها وننزل إلى الحفر قبل أن يحرق العدو الأرض بمدفعيته”، متذكراً إشرافه على تأسيس «كتيبة الجرمق» الطلابية.
عارض النقاش التورط في الحرب اللبنانية بين أبناء الوطن الواحد وقد أصيب في يوم انطلاقتها عام خمسة وسبعين، ويقول: «كل الناس غرقوا في القتال، وكنت أسعى إلى توجيه البنادق إلى إسرائيل فقط».
وعند الاجتياح الإسرائيلي عام ثمانيةٍ وسبعين، ترك بيروت وانتقل إلى الجنوب مشاركاً في التصدي للعدوان. ومع العمل المقاوِم اللبناني الأول بمواجهة اسرائيل في معركة كفرشوبا، قرر ترك «فتح» وتأسيس فصيل لبناني «أكثر فعالية وقرباً من الجماهير».
فأسس النقاش سريّتين لبنانيتين في كفرشوبا وبنت جبيل، أصبح أفرادهما جزءاً من قيادة المقاومة لاحقاً، كالشهيد عماد مغنية.
وأنيس النقاش هو نفسه الرجل الذي تأثر بالثورة الاسلامية في إيران ونسج علاقات واسعة مع كوادرها، تدريباً وتعاوناً أمنياً وعسكرياً، ووجد ضالّته فيها. ودفاعاً عن الثورة الإيرانية، لم يتردد في الذهاب إلى باريس عام 1980، لاغتيال شهبور بختيار. نجا الأخير بأعجوبة، فيما ألقي القبض على أنيس النقاش وحكم عليه بالمؤبد، لكنه سُجن عشر سنوات في باريس وأفرج عنه عام ألفٍ وتسعمئة وتسعين في عهد فرانسوا ميتران، ولم يدرك الفرنسيون طوال عقد كامل قضاه أنيس النقاش في سجونهم أنّه هو نفسه «خالد» اللبناني، شريك كارلوس في عملية فيينا عام خمسة وسبعين، حيث جرى احتجاز وزراء النفط في منظمة «أوبك».
أنيس النقاش الذي نفّذ وشارك في عمليات خطيرة، لم تقتله تلك العمليات. وهو الذي رمى نفسه مراراً في الخطر لم يبتلعه الخطر. وهو الذي كان سقفه عالياً في الخطاب، لم يوقعه خطابه بمقتل. بل خطفه كورونا وهو في السبعين على سرير مستشفى دمشقي، ولكن عمره عاشه مرتين وأكثر بين مشاركته في السادسة من عمره في تظاهرة تضامنية مع المناضلة الجزائرية جميله بو حيرد إلى أن صار يدرّ شهية الاعلام على استقباله كمحلل متميز، قريب من محور المقاومة ولكنه لا يتردد في انتقاد بعض مواقف رموزها أو حتى بعض الخيارات والتكتيكات، ليطرح مقاربات فيها من الاختلاف ما يجذبك، وعدا عن الجلسات واللقاءات مع النقاش قبل أن تجتاحنا كورونا، كانت لي مقابلة أخيرة معه على أثير صوت المدى في السابع والعشرين من الشهر الماضي، أي منذ أقل من شهر.
تحدث عن مستقبل الوطن، وهو لم يكن يعلم أن مستقبله سيتوقف بفيروس.