جنان جوان أبي راشد – خاص “المدى”
بعد انتهاء المئوية الاولى من عمر دولة “لبنان الكبير”، لا بدّ من من مراجعة المراحل التي مرّ بها لبنان على الصعيدَين المالي والاقتصادي منذ الأول من أيلول 1920 وحتى الأول من أيلول 2020.
الاستاذ الجامعي والاقتصادي والمستشار في حكومة الرئيس سليم الحص الدكتور عبد الله عطية والذي لديه كتابٌ عن تطوّر الدين العام في لبنان بعنوان:”مخاطر العجز والدين على الاستقرار والحريات في لبنان” شرح ل “المدى” المراحل المالية والاقتصادية التي مر بها البلد في المئة عام الماضية.
واشار الى ان لبنان بعد الامبراطورية العثمانية اعتمد نظاماً اقتصادياً حراً، ولحوالى 23 سنة خلال فترة الانتداب وضع أسس الدولة الحديثة، فكانت حرية تحويل الاموال اضافة الى امكان تحويل العملة اللبنانية الى أي عملة اخرى ميزة للبلد الذي كان سباقا في ذلك، وقد أحرز لبنان نمواً اقتصادياً منقطع النظير الى أن وصل الى إقراض الهند وشركة “رينو” الفرنسية. وقد شهد لبنان نموا فريدا من نوعه بعد الحرب العالمية الثانية حتى بداية الحرب في العام 1975 كما يقول. ففي اواسط القرن العشرين بنى لبنان اقتصاداً وفق الحاجات التي يتطلّبها وتتطلّبها المنطقة من السياحة الى المصارف والمستشفيات والمدارس وغيرها فانتقل نصف المجتمع اللبناني من الزراعة الى العمل في الخدمات. وكان لبنان اقتصاديا عند المستوى ما بين اليونان وايطاليا، ولم يكن لديه دين عام، كما لم تعرف فيه الموازنات بين العامين 1950 و1975 الا عجزاً منطقياً طفيفاً جداً نسبة الى ارتفاع مستوى الانتاج فيه حينذاك، فلم يتخطَّ الدين العام أبداً ال2% من انتاجه السنوي.
أما التحوّل كما يقول عطية، فبدأ خلال سنوات الحرب عندما تراجعت ايرادات الدولة من الضرائب والرسوم، فيما ارتفعت في المقابل كلفة الأعمال الحربية وتفشّت ظاهرة التوظيف السياسي العشوائي، الا أن سعر الليرة لم يتأثر في بداية الحرب بل بقي منضبطاً، ولم تنفجر الاوضاع إلا بعد حرب الجبل في العام 1983، وذلك بسبب الانفاق العسكري المتزايد والهائل في مقابل تراجع المداخيل والانتاج، فكان انفجار الدين العام الذي بلغ مستويات عالية جدا بين العامين 1983 و1992 وإنهار سعر الليرة بسبب التضخم في العام 1990.
أما في ما خصّ الدين العام، فقد ارتفع من 270 مليون دولار في العام 1976 الى 3.7 مليار دولار تقريبا في العام 1992. وقد زاد الدين الداخلي بين العامين 1983 و1992 257 مرة، وانخفض مستوى الليرة 62%.
واعلن عطية انه في اواخر ايلول 1992 وبعد ارتفاع كبير في التضخّم، انخفض الدين العام من 3.7 مليار دولار الى 1.4 ملياراً لان الدين العام حينها كان بمعظمه ديناً داخلياً بالليرة.
اما بعد الطائف فإن المرحلة تنقسم الى اثنتين بحسب عطية، إحداهما خلال عهد حكومتَي الرئيسين سليم الحص وعمر كرامي، اذ كانت عندها محاولة لضبط الامن وضبط الموازنة، والأخرى بعد العام 1992 خلال حكومة الرئيس رفيق الحريري عندما كان الدين حينها لا يتعدّى المليار و300 مليون دولار، الا أنه اعتُمدت سياسة سهولة الاستدانة بالليرة بهدف اعادة اعمار البنى التحتية فكان انخفاض اضافي لليرة وكان الانفاق يفوق الانتاج، ما انعكس مجدداً زيادة في التضخم وانخفاضاً في سعر العملة الوطنية كما يقول عطية.
اما في العام 1997 فقد تحوّلت السلطة الى الاستدانة بالدولار بحجة أن الفوائد أقل، وكان عندها الخطأ الجسيم بحسب عطية الذي قال انه بدأ انزلاق لبنان تدريجاً نحو ازدياد الدين بالدولار.
ويضيف عطية انه وفي خلال ولاية الرئيس اميل لحود وحكومة الرئيس الحص وُضعت خطة للتصحيح المالي لخفض الدين العام 96% في خلال فترة 5 سنوات، بعدما كان هذا الدين العام قد بلغ حوالى 19 مليار دولار، نصفه بالليرة والنصف الاخر بالدولار، الا ان الحكومة سقطت.
وانتقد عطية عملية اعادة اعمار لبنان بعد الحرب التي لم تتعدَّ كلفتها 3.4 مليار دولار كما قال، الا انه لم يكن هناك تحديدٌ للاولويات فيها، فتعاظم بعد العام 2000 الدينُ العام بالدولار.
واعتبر عطية أن من البديهي أن نصل الى ما وصلنا اليه لأننا بلد ينفق أكثر مما ينتج ونستدين باستمرار على مدى سنوات وسنوات، فقد وقع البلد في “فخّ السهولة”، عدا 5 أشهر من ولاية حكومة الرئيس عمر كرامي التي استطاعت أن توقف بعض مزاريب الهدر وتحقق فائضاً على حد تعبيره.
وتابع إن أخطر ما حدث بين العامين 2005 و2016 كان غياب اقرار المجلس النيابي الموزانات العامة، فعندها دخل بلدنا في مرحلة “التسيّب المالي”.
لبنان نقطة الالتقاء بين الشرق والغرب الذي كان قد لُقّب بـ”سويسرا الشرق” لم يستفد بعد الحرب الطاحنة من المتغيّرات الإقليمية والعالمية ولم يقتنص أي فرصة، بل شرّع الابواب للخارج، وبدأ بعد هذه الحرب في الانزلاق الى الاستدانة من دول العالم، ليصبح ممراً أسهل للأفيال، فريسة ولقمة سائغة على مائدة هذه الدول، لكن لا بدّ من الأمل في أن يتّعظ اللبنانيّون في القابل من الأيام ومع بداية المئوية الثانية.